الارشيف / حال قطر

الخناصر

الدوحة - سيف الحموري - بقلم د. خالد أحمد عبد الجبار

«صالح» يصارع الحياة من أجل زوجته وبناته أن يصفه بلاعب متمرس في عض الأصابع، من يعمل جاهداً كي لا تؤكل بنانة إصبعه، أو تُقطع، أو تدمى، مجازاً في دنيا يكابدها، خاصة وهو من يعاني من مرض عضال لا يرجى برؤه، غير أن سبابته قطعت بالفعل جراء ضربة خاطئة بفأس من معاونه، فأصبح لعض الأصابع التعبير بمعناه الحرفي.
بعد تلك الحادثة بعدة أشهر وبينما هو سائر في يوم من أيام حزيران، وكان الجو خانقاً جافاً، وقطيع الغبار لا يفتأ يغمر الطرقات، رأى رجلاً مسناً بنفس مهترئة، ووجه محطم، وعينين زائغتين، وقد تراخى كتفاه، وهو يستمع لأشد عبارات التوبيخ من أحد المتنفذين أمام حائط قصره- وبجواره حارس بهراوة- يلومه على استلقائه بجوار القصر، فتقدم مسرعاً وقد استشاط غضباً، وانحنى للرجل ممسكاً بيده مبتسماً لوجهه، ثم رفع طَرْفَه ناظراً إلى المتنفذ متعجباً، بل كارهاً لفعله وجرأته، واتبعه بتوجيه سبابته -المقطوعة- التحذيرية ألا يعاود ما اقترفه من خطيئة في حق غيره، دون أن ينبس صالح ببنت شفة.
أحكم الحارس قبضته على الهراوة وهو يقول: ماذا تفعل يا رجل؟
نطق حينها بنبرة جادة: ما رأيتَه.
فأشار السيد للحارس بأن يكف حديثه، فقد بدا له بأنه رجل لا يتعاظمه موقف، ولا يضيق صدره بما يُقال أو يقول.
هنا أمسك صالحٌ بيد الرجل المسن ومضيا سوياً نحو ظل شجرة وارفة، وإذ انتهى بهما المقام هناك تنهد الرجل وشفتاه شبه مفتوحتين، وكأن كلماته وقفت على حافتيهما، وبدا أنه يلقى مشقة في دفعها، وظن صالح أن من واجبه تخفيف وطأة الموقف عليه، غير أن المسن نظر إليه بسكينة ورفع يديه ضاماً يد صالح ذات السبابة المقطوعة، وطفق يدعو له بأشد النبرات خشوعاً، قائلاً:
ربي ارزقه بطفلٍ تُعقَدُ عليه الخَناصِر.
تعجب مما سمع، فأنشأ يقول وهو يغص بريقه:
وما أدارك بمنتهى رجائي؟
بل سيعطيك الله زيادة على منتهى الرجاء نظير ما تفعل.
فرد يائساً: أنا مريض ميؤوس من شفائي، وقد أخذ الكرى بمعاقد أجفاني، وما عدت أطيق تفكيراً حول زوجتي وبنياتي بلا ابن يكون لهن سنداً ومعيناً.
فحاصرهما سيل الألم وكلاهما ينظر ملياً في الآخر، ثم أن المسن قطع تدفقه، وقال:
اقمع نفاد صبرك وانتظر، لعل الله يحدث أمراً، ومضى في حال سبيله.
كان يصغي إليه بانتباه شديد وفرحة بادية، ثم خالجه اليأس والشك ثانية، واستدار صوب بيته مرتبكاً، ومن غير أن يرفع بصره إلى ما فوق ركبتيه.
حكى لزوجته ما صار، والتي بحثت عن ابتسامة ترتسم على شفتيه تفاؤلاً من قول المسن، بيد أنه كان مهموماً، وارتسمت بدلاً عنها نظرات هائمة، وهو يفكر في كل ما حدث وقد ساخت عيناه من الهم.
زوجي الحبيب لعل هناك أمرا سيسعدك سماعه. فنظر إليها مستفهماً.
ضحكت بادئ الأمر باصطناع مكشوفٍ كي تخفف عنه توتره. وأردفت قائلة: أخبرتني الطبيبة بأني حامل في شهري الثاني، ولعل دعاء الرجل سيكون له واقعاً نسعد به.
جلس لدقائق طويلة صامتاً والدموع تملأ عينيه، ووجهه يختلج كما لو أنه تائه في عالمه الداخلي، بعيداً عن واقعه في تلك اللحظة.
ومضت الأيام ومعها تدهورت حالته، وفاضت روحه في ليلة رأت فيها ابنته الكبرى رؤيا غريبة، تضيف بعداً مجازياً محيراً، فقد رأت أن رضيعاً أنجبته أمها ينبش رفات والدها بعد يومين من وفاته، وينتزع أصابع والدها من جثمانه ويقوم بإطعامهن إياها.
أفاقت مرتاعة من تلك الرؤيا، غير أن تأويلها كان أعجب من ذلك، فقد قيل لهن: بأنه أخ ستدله أمهن يقضى حوائجهن، وبالفعل ولدت الأم ولداً بعد انقضاء حملها واسمته «عزيز»، وفي يوم ولادته طرق الباب رجل من مصلحة الإسكان يخبرهم بأن بيتهم المتواضع سيدخل ضمن توسعة الشارع، مقابل تعويض مالي مجز.
فانتقلوا إلى مرحلة أخرى محفوفة بالبركة وسعة الرزق، وانتشر خبر الرجل المسن ورؤيا الفتاة، وغدا القرب منهم والاتصال بهم غاية الجميع، وكبر «عزيز» باراً أديباً أريباً، وأصبح عالماً، وذات مرة قال لطلابه في مجلس العلم «لا بد من حياكة المعروف بين الناس للعيش لما بعد الممات، فالمعروف بارقة تضيء الأمل لمن تشتد بهم النوازل والخطوب، وتحيل حلكة سواد واقعهم لنهار مشرق، وتعطي صانعه جسراً للخلود في أفئدة الناس».

Advertisements

قد تقرأ أيضا