الارشيف / حال قطر

دراسة تاريخية لجامعة قطر حول «النملة التي قتلت الأسد»

الدوحة - سيف الحموري - قدم الدكتور ماهر أبو منشار، أستاذ مشارك في التاريخ الإسلامي قسم العلوم الإنسانية، كلية الآداب والعلوم بجامعة قطر، دراسة تاريخية لعبارة «النملة التي قتلت الأسد». والتي شغلت العلماء والمؤرخين لقرون طويلة. تدور هذه المقولة، التي شاعت في أواخر القرن الثاني عشر وأوائل القرن الثالث عشر الميلادي، حول شخصية الملك ريتشارد الأول الشهير بقلب الأسد ملك إنجلترا (ت 1199م)، وتحمل دروسًا عميقة لكل من يتقلد السلطة والسلطان.
وقد اعتمدت هذه الدراسة على منهج البحث التاريخي التحليلي لفهم مقدمات الحدث ومساره ونتائجه، والسبب الذي من أجله قيلت هذه العبارة واشتهرت. فقد شكل تحرير بيت المقدس في 2 أكتوبر 1187م على يد السلطان صلاح الدين الأيوبي حدثًا مدويًا وصدمة كبيرة للصليبيين في الشرق والغرب على حد سواء. ونجح الصليبيون في استغلال ضعف المسلمين وتفككهم في الحفاظ على احتلال بيت المقدس والسيطرة عليه لعقود طويلة منذ عام 1099م.
وقد جاءت الهزيمة في معركة حطين في 4 يوليو 1187م لتؤكد على ضعف القوات الصليبية وتفككها. كانت أخبار هذه الهزيمة مدمرة لدرجة أن البابا أوربان الثالث توفي في 20 أكتوبر 1187م من هول الصدمة وعمق المأساة. وقد أدى ذلك إلى استجابة سريعة من أوروبا، مما أدى إلى تشكيل الحملة الصليبية الثالثة (1189-1192م) تحت قيادة الملك ريتشارد الأول والملك فيليب أوغسطس ملك فرنسا وفريديرك بربروسا ملك ألمانيا، إضافة إلى فرض ضريبةٍ قدرها 10% باسم «عشور صلاح الدين» على الجميع دون استثناء لتمويل الحملة وإيجاد شعورٍ بالكراهية والحاجة للانتقام من صلاح الدين والمسلمين.
وقد غرق فريديرك بربروسا في نهر كاليكادنوس، وهو نهر صغير في قيليقية، في 10 يونيو 1190م أثناء زحفه نحو بلاد الشام. ونتيجةً لذلك، فقدت السيطرة على جيشه وتشتت جنوده وعاد معظم القوات الألمانية إلى وطنهم. وقد ترك انسحاب الملك فيليب أوغسطس من الحملة بعد ذلك ريتشارد الأول ليقود الحملة الصليبية بمفرده. اتسمت رحلة ريتشارد بالبسالة والجدل في آنٍ واحد. كانت عزيمته العنيدة ومزاجه الشرس معروفين جيدًا، مما أكسبه الإعجاب والانتقاد على حد سواء. أبرزت مفاوضاته المكثفة مع صلاح الدين الأيوبي، التي بلغت ذروتها في معاهدة الرملة للصلح في 2 سبتمبر 1192م، حنكته الاستراتيجية وعزمه.
ترسم الروايات التاريخية ريتشارد الأول كشخصية معقدة - ذكي وعنيد في نفس الوقت، شجاع ومتهور في نفس الوقت. وقد قادته قناعته الأولية بأن القدس هي ملكية مسيحية حقًا إلى حصار وحشي لعكا، حيث لم يتورَّع هذا الملك بعد شهرٍ من وصوله إلى عكا من قتل ما يقارب الثلاثة آلاف أسيرٍ مسلمٍ بطريقةٍ لا يمكن أن يتصورها عاقل. وقد أظهر هذا العمل، إلى جانب انتصاراته في معركة أرسوف7 سبتمبر 1191م، براعته العسكرية. ومع ذلك، فإن إدراك ريتشارد أن القوة وحدها لا يمكن أن تستعيد القدس كان بمثابة نقطة تحول، مما دفعه إلى الدخول في مفاوضات مع صلاح الدين.
تأخذ أسطورة «النملة التي قتلت الأسد» منعطفًا دراميًا من خلال قصة الصبي الذي تسبب في سقوط الملك ريتشارد الجبار، على الرغم من صغر سنه يبلغ الحادية عشرة عامًا والذي اختلف المؤرخون في اسمه ما بين بيير باسيلي او بيرتران دي جوردون. فروايات التاريخ تذكر أن الملك ريتشارد الذي عشق القتال وسفك الدماء، أصابه سهم في كتفه أثناء حصاره لقلعة شالو شابرول في فرنسا يوم 25 مارس 1199م، لكنه استهان بجرحه الذي تسبب به السهم لأن من أطلقه كان طفلاً، لكن الملك لم يكن يعلم أن هذا السهم قد انطلق من يد طفلٍ مكلومٍ يحمل في قلبه حزنًا عميقًا وبغضًا كبيرًا لقاتل والده (أي الملك ريتشارد). فكان السهم على الرغم من ضعف ذراعي الطفل، بمثابة قذيفة في قوته. لقد استهان الملك بجرحه وظن أن الجرح سيلتئم عاجلاً، لكن الجرح تطوَّر بسرعةٍ كبيرةٍ ليصبح ما يُعرف بـ «الغرغرينا»، وشكَّل ألمًا شديدًا لم يستطع الملك تحمله على الرغم من القوة والجبروت التي عُرف بهما. ثم ما لبث أن مات الملك عن عمر ناهز 41 عامًا في يوم 6 ابريل 1199م. وقد أوضح هذا الحدث بشكل صارخ أنه حتى أصغر الناس وأضعفهم ظاهريًا يمكنهم تحقيق ما يبدو مستحيلًا.
إن موت الملك ريتشارد الأول على يد مجرد صبي (النملة)، هو تذكير مؤثر بحدود القوة وعدم القدرة على التنبؤ بالقدر. إنه يؤكد الدرس الخالد بأن العزيمة والإصرار، حتى في أصغر الكائنات، يمكن أن تتفوق على جبروت الإمبراطوريات وغطرسة الملوك. تمثل عبارة «النملة التي قتلت الأسد» استعارة قوية لقدرة المستضعفين على التغلب على الصعاب التي تبدو مستعصية.
إن دراسة الدكتور ماهر أبو منشار لهذه الرواية التاريخية لا يثري فهمنا للماضي فحسب، بل يقدم أيضًا رؤى قيمة حول القيادة وديناميكيات السلطة وجوهر القوة الحقيقية. تعمق أكثر في هذه الدراسة الرائعة واستكشف الدروس التي لا يزال التاريخ يعلمنا إياها.

Advertisements

قد تقرأ أيضا