خبراء : رغم ندرتها.. الترجمة العلمية أهم أسباب النهضة الحضارية عربيا

الدوحة - سيف الحموري - التنمية بجميع أبعادها، سواء كانت ثقافية أو فكرية أو تتعلق ببناء الإنسان، رهن بالعلم، ولا يختلف أحد على أن الإنسان هو محور ومرتكز النهضة الحضارية، لكي يصبح الإنسان قادرا على الإبداع العلمي، يبرز السؤال: كيف يتحقق هذا الإبداع في ظل الفجوة الحضارية والعلمية بين واقعنا العربي والنهضة الغربية؟ ولعل واحدا من أهم أسباب تقليص هذه الفجوة هو الترجمة العلمية التي تنقل إلينا العلوم والمعارف وتتيح لنا قاعدة جديدة للانطلاق نحو بناء الإنسان العربي علميا ومعرفيا.

Advertisements

وحسب الإحصائيات المتاحة، فإن واقع الترجمة في العالم العربي صادم، فالكتاب المترجم لا يتجاوز 5 بالمئة من حجم المنشور على المستوى العربي، وقد يصل إلى صفر بالمائة بالنسبة للكتب العلمية المتعلقة بعلوم العصر الأساسية، كما أن جل الترجمات تتركز في العلوم الإنسانية أو كتب التسلية أو الكتب التعليمية، لأنها الأكثر رواجا وربحية لدور النشر، فيما تكاد الترجمة العلمية تكون شبه غائبة، وذلك حسب كتاب "الترجمة في العالم العربي: الواقع والتحدي.. في ضوء مقارنة إحصائية واضحة الدلالة" للمترجم العربي الراحل شوقي جلال.

وكالة الأنباء القطرية "قنا" تسلط الضوء على الترجمة العلمية، التي تشمل (العلوم الأساسية أو البحتة وعلوم الأرض وعلوم الحياة والعلوم التطبيقية والتكنولوجية) وأهميتها ولماذا هي نادرة وشبه غائبة، وكيف يمكن النهوض بها لتكون رافدا للإبداع العلمي العربي لتحقيق نهضتنا المنشودة.

وفي هذا السياق، أكد عدد من خبراء الترجمة على الأهمية المتزايدة للترجمة العلمية التي تتعاظم يوما بعد يوم نتيجة للانفجار المعرفي، والتقدم التكنولوجي الهائل في جميع مجالات الحياة، كما تزداد هذه الأهمية بالنسبة لعالمنا العربي كونه متلقيا للمعرفة العلمية أكثر منه منتجا لها وهو الوضع الذي يتناقض جوهريا مع النقص الشديد الذي نعاني منه في مجال الترجمة.

وقال الدكتور مجاب الإمام رئيس قسم الترجمة في منتدى العلاقات العربية والدولية، في تصريح  إنه رغم الجهود الكبيرة التي يبذلها المترجمون في الترجمة العلمية، وتشجيع منتدى العلاقات العربية والدولية ومختلف المؤسسات المعنية بالترجمة، إلا أن الإنتاج الترجمي في هذا الحقل العلمي لا يزال غير كاف، مشيرا إلى أن مؤتمر الترجمة السنوي الذي ينظمه المنتدى يخصص جلسات للترجمة العلمية، ويهتم بتعزيز هذا الجانب.

وأضاف أن الترجمة العلمية تعاني ندرة بالفعل، وهناك إشكالية أخرى حول ترجمة التراث العلمي العربي إلى اللغات الأخرى، وإسهام الحضارة العربية في عملية القفزة الثقافية التي عاشتها أوروبا، وذكر أن منتدى العلاقات العربية والدولية يسعى إلى التركيز على هذا الجانب بالتعاون مع المؤسسات الثقافية المعنية في الوطن العربي، ويأمل في تحقيق المزيد في هذا الشأن، منوها بأن حجم النشر العلمي يتسارع بمعدلات كبيرة، وتتنوع المصادر الأجنبية للثقافة العلمية، ويقابله نقص شديد في المترجمين العلميين. لذلك، نحتاج إلى خطة ذات محاور واضحة لاختيار الكتب المترجمة على المستوى العربي.

 

ومن جهته، أكد المترجم الدكتور يوسف بن عثمان أستاذ تاريخ الفلسفة الحديثة والعلوم بجامعة المنار بتونس، في تصريح مماثل ، أن الوضع الحالي في ترجمة العلوم والإنتاج العلمي في الوطن العربي يعاني من نقص ملحوظ. وبناء على دراسة قام بها على عدد من مؤسسات الترجمة في العالم العربي، مثل المركز القومي للترجمة في مصر، ومعهد تونس للترجمة، والمنظمة العربية للترجمة بلبنان، ومركز دراسات الوحدة العربية في لبنان، تبين أن هذه المؤسسات التي تنشر منذ عقود، لا يتجاوز إنتاجها من الترجمة العلمية ما بين 3 بالمائة و7 بالمائة من إجمالي الأعمال المترجمة.

وذكر الدكتور يوسف بن عثمان وهو مترجم ثلاثية الكاتب ألكسندر كويريه ( دراسات غاليلية - دراسات نيوتنية – ومن العالم المغلق إلى الكون اللامتناهي) أنه لا يوجد في بعض دور النشر سلاسل مخصصة لترجمة العلوم أو تاريخ العلوم، بينما تتوفر سلاسل للأدب والفن والفكر السياسي والعلوم الإنسانية بشكل عام، وهذا يؤدي إلى نقص في الإنتاج العلمي الحقيقي، وهو أحد الأسباب الرئيسية لتأخرنا كعرب. على الرغم من أهمية العلوم الإنسانية، فإن الحاجة إلى الكتابات العلمية أشد، حيث كان للعرب والمسلمين إسهام حضاري كبير في الفترة من القرن الثامن إلى القرن الخامس عشر ميلادي، وكانت العربية لغة العلم ولغة كونية، ولها إسهامات إبداعية في العلوم.

وقال المترجم يوسف بن عثمان الحائز على جائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي عام 2018م، إن بناء مجتمع قائم على المعرفة يتطلب إنتاجا علميا بلغة العرب. وشدد على أن اللغة العربية، بمصطلحاتها قادرة على ابتكار مصطلحات جديدة تواكب الإنتاج العلمي وتنتج العلم بذاتها.

وحول تجسير الهوة بين الواقع العلمي في الغرب والعالم العربي، قال: علينا مراجعة ما قام به أسلافنا من جهود في الترجمة، فالعرب في الماضي لم يقتصروا على النقل، بل قاموا بالبحث والابتكار. لذلك، يجب علينا اليوم ترجمة أعمال الغرب والبحث والتطوير باللغة العربية، لتصبح اللغة العربية لغة العلم، مما يسهم في تعزيز الإنتاج العلمي العربي.

 

 

ومن جهته، أوضح الدكتور فؤاد القيسي محاضر أول في مركز اللغات بمعهد الدوحة للدراسات العليا، في تصريح ، أن واقع الترجمة هو انعكاس لواقع السياسة اللغوية في العالم العربي كافة؛ فقد بدأت تظهر ظواهر جديدة لم نعتد عليها، مثل: تراجع اللغة العربية في الإنتاج العلمي، ومكانة العربية في التعليم المدرسي (لا سيما الدولية منها)، وفي السياقات المهنية هذه التغيرات تفسر قلة الترجمات العلمية مقارنة بالأدبية، حيث يتحمل المتلقي عبء مواكبة النشر باللغات الأجنبية، مما يجعل القراءة بلغة أجنبية شائعة علميا ومهنيا.

وأشار الدكتور القيسي إلى أن أسباب تراجع الترجمة العلمية لا تقتصر على ضعف التخطيط والسياسات اللغوية فقط؛ بل تتعداه إلى ندرة المترجمين المتخصصين في العلوم، وللوصول إلى ترجمات تيسر فهم العلوم للعامة؛ فالترجمة العلمية تتطلب مستوى عاليا من المهارات التقنية والمعرفة بالعلوم واختلاف الثقافات العلمية لضمان وصول المحتوى بوضوح إلى الجمهور.

وتابع أن القراءة والتعلم باللغة الأم هما طوقا النجاة لأي نظام تعليمي أو مشروع تربوي، وبعيدا عن الأرقام والإحصائيات؛ فإن الفاقد التعليمي والمعرفي عند القراءة والتعلم بلغات أجنبية أكبر منه عند التعلم والقراءة باللغة الأم، كما أن هناك فئة في العالم العربي لا تمتلك إتقان اللغات الأجنبية في المجال العلمي، لكنها تمتلك القدرة الذهنية للإبداع والابتكار والمشاركة في إنتاج المعرفة إذا توفرت لها فرصة الوصول إلى مصادر المعرفة الأجنبية عبر الترجمة.

وأكد الدكتور القيسي أهمية بناء أرشيف علمي وتدوين المعرفة باللغة الأم لتوفيرها لجميع الناطقين بها؛ ومن هنا تأتي أهمية الترجمة في توطين المعرفة؛ مشددا على أنه لا يمكن الوصول إلى نهضة علمية دون بناء قاعدة علمية صلبة ومتاحة لجميع الناطقين بالعربية، ويمكن للترجمة أن تختصر الوقت والجهد المطلوبين لتحقيق ذلك كما تساهم في كسر الحواجز الفردية المتمثلة بإتقان اللغات الأجنبية.

كما أكد على أهمية دور السياسات اللغوية التي يعول عليها في تحديد أولويات الترجمة العلمية إلى العربية وشار إلى أن هذه السياسات يجب أن تتماشى وفق مشروع معرفي وحضاري لكل دولة على حدة وللدول العربية مجتمعة؛ ولذلك يأتي دور المجالس العلمية ولجان التخطيط الاستراتيجي ومجامع اللغة العربية، منوها بأهمية ترجمة أمهات الكتب في العلوم والمعارف، ومواكبة النشر العلمي الحيوي، والتركيز على المجالات التي تأخر فيها البحث العلمي العربي، وأضاف أن ارتقاء مستوى المترجمين في المجالات العلمية يتطلب تيسير الدورات التكوينية وتثمين جهودهم اجتماعيا وماديا لتشجيعهم على الاستمرار في هذا النشاط الحيوي.

بدوره، قال السيد موفق فائق توفيق خبير الترجمة الفورية في شبكة الجزيرة الإعلامية، أن الترجمة العلمية تعتبر من أهم عوامل تطور الحضارات نظرا لدورها البارز في نقل العلوم والمعارف بين الحضارات، حيث تقوم النصوص العلمية بشرح أفكار معقدة بلغة ومصطلحات متخصصة غير دارجة لدى العامة، مما يتطلب من المترجمين أن يكونوا متمكنين من هذه المصطلحات وأن يمتلكوا خبرة واسعة في تقديم ترجمة علمية أكاديمية.

وأشار توفيق إلى أن الاحتراف في الترجمة العلمية يجعل الوكالات والشركات المتخصصة تسعى لتوفير خدمات ترجمة يتم تنفيذها بواسطة مترجمين محترفين يتسمون بالمواصفات المذكورة، وذلك بأسعار تنافسية في سوق الترجمة.

أخبار متعلقة :