ابوظبي - ياسر ابراهيم - الأحد 29 أكتوبر 2023 11:28 مساءً - الكاتب مؤلف العديد من الكتب عن المركز المالي بلندن وحي وول ستريت
يعد إلغاء الحد الأقصى لمكافآت المصرفيين في المملكة المتحدة الأسبوع الماضي نموذجاً كلاسيكياً للرهان على الفوز في كل الأحوال بقطاع الخدمات المالية. الخطأ في الأساس كان يتمثل في فرض الاتحاد الأوروبي هذا الحد الأقصى، وليس إلغاء بنك إنجلترا له فما عواقب الإجراء الأصلي؟ وما فوائد إلغائه، إن وجدت؟
تم فرض سقف للمكافآت في سنة 2014 حينما كانت الحالة المعنوية بعد الأزمة المالية منخفضة للغاية، وكانت القوانين المصرفية الأوروبية الجديدة تتماشى بشكل عام مع المعايير العالمية، حتى أدرج صناع السياسات خلسة وسط هذه القوانين حداً أقصى للمكافآت ينطبق على بعض المصرفيين الذين يقدمون الخدمات المالية في أوروبا. ويقضي الإجراء بوضع سقف للمكافآت بنسبة 100% من رواتب المخاطرين ومديريهم، ترتفع إلى 200% في حالة موافقة المساهمين، وهو ما لم تتبعه أي سلطة مالية رئيسة أخرى.
وبسبب ذلك، احتج بشدة كل من جورج أوزبورن، وزير المالية في المملكة المتحدة آنذاك، ومارك كارني، محافظ بنك إنجلترا، في ذلك الوقت، بحجة أن هذا الإجراء من شأنه أن يزيد الأخطار عبر دفع المصارف إلى رفع التكاليف الثابتة للتعويض عن انخفاض الأجور المتغيرة، غير أن سقف المكافآت قد حظي برضا منتقدي القطاع المصرفي في أوروبا، وبناء عليه ظل قائماً.
وفي السنوات التالية، قامت المؤسسات المالية بزيادة الرواتب وتقديم بدلات خاصة مرتبطة بطبيعة الوظيفة للمخاطرين الماليين، وكان هؤلاء يتمتعون بميزة تجنب انخفاض المكافآت في السنوات سيئة الأداء بينما أخذت التكاليف الثابتة للمؤسسات في الارتفاع. وكان كل ذلك غير ضروري على الإطلاق لأن الإصلاحات الأخرى التي أعقبت الأزمة، ومن ذلك تأجيل المكافآت واستردادها، أدت إلى خفض الأخطار المتعلقة بالتداولات التي تستهدف اقتناص المال والخروج السريع، وهو بالضبط الهدف المقصود من وضع سقف للمكافآت.
وحينما غادرت المملكة المتحدة الاتحاد الأوروبي في سنة 2020، غيرت بروكسل الشروط، ولم تقدم أي تنازلات لصناعة الخدمات المالية التي تهيمن عليها المملكة المتحدة. وتحتاج المؤسسات المالية التي تتخذ من المملكة المتحدة مقراً لها إلى إرشادات أوروبية للعمل هناك، ولذلك، فقد انتقلت مجموعة صغيرة من الوظائف وأكثر من ذلك قليلاً من الأعمال التجارية إلى باريس وأمستردام وفرانكفورت. وبالنسبة للاقتصاد البريطاني الذي يحتاج إلى النمو، فإن أي تهديد لقطاع رئيس مثل الخدمات المالية يجب أن يؤخذ بكل الجدية.
ولذلك، قدم وزير المالية جيريمي هانت في سنة 2022 حزمة من الإصلاحات التي تهدف إلى جعل الحي المالي أكثر جاذبية لإدارة الأعمال، ومن ذلك المشاورات التي قادها بنك إنجلترا في شأن سقف المكافآت. وقد جاءت الردود التي بلغت اثني عشر رداً فقط مخيبة للآمال، ولكن جميعها تقريباً كانت لمصلحة الإلغاء، وبالفعل تم إلغاء الحد الأقصى في الأسبوع الماضي. وتعتقد السلطات أن ذلك من شأنه تحسين القدرة التنافسية العالمية للحي المالي واستعادة مرونة المؤسسات المالية في مسعاها لخفض التكاليف الثابتة.
بصفة شخصية، لا أتوقع الكثير على أي من الصعيدين ودعونا نتناول القدرة التنافسية أولاً، فيتم تطبيق الحد الأقصى للمكافآت على المؤسسات المالية البريطانية التي تمارس أعمالها في أنحاء العالم والمصارف الأجنبية التي تمارس أعمالها في المملكة المتحدة. وبعد إلغاء هذا السقف، فإن المصارف العالمية التي تتخذ من المملكة المتحدة مقراً لها، مثل باركليز وإتش إس بي سي، والتي كانت دفعت في السابق رواتب عالية لبعض الموظفين المقيمين في الخارج للتعويض عن حزم المكافآت ذات الحد الأقصى، سيكون باستطاعتها تقديم أجور أكثر اتساقاً مع ما هو سائد في الأسواق المحلية.
وستتمكن مؤسسات مثل جولدمان ساكس ومورجان ستانلي من تطبيق الممارسات المعتادة في وول ستريت على الموظفين العاملين في المملكة المتحدة، الأمر الذي سيجعل لندن وجهةً أفضل قليلاً للمخاطرين من أوروبا، وعلى الأقل حتى يلغي الاتحاد الأوروبي سقف المكافآت أيضاً، وهو ما سوف يحدث بالتأكيد ولكن هذه الأمور تتعلق بالملاءمة الإدارية، ولا تغير قواعد اللعبة التنافسية.
وإذا ما انتقلنا إلى المرونة، فمن الناحية النظرية، تستطيع المؤسسات المالية التفاوض على خفض الرواتب الأساسية للمخاطرين الماليين في مقابل الوعد بالمزيد من الأجور المرتبطة بالأداء.
وتنطبق القواعد الجديدة على السنة المالية الحالية، وهي فترة كانت فيها أنشطة الأعمال غير منتظمة وإيرادات الخدمات المصرفية الاستثمارية ثابتة ولذلك فإن المطالبات المنطقية بالمكافآت التي تتجاوز الحد الأقصى ينبغي أن تكون الاستثناء وليس القاعدة، ويجب أن يكون الرد عليها عموماً بالرفض.
وقد تتمكن الإدارات الذكية من التفاوض على رواتب أقل مقابل الوعد بمكافآت أعلى في المستقبل ولكن المتداولين والمصرفيين المتميزين يمتلكون العديد من الأوراق فيما يعده الكثيرون أهم أدواتهم لهذا العام ولذلك فمن المرجح أن الرواتب التي تضاعفت مرتين أو ثلاثاً للالتفاف على الحد الأقصى ستصبح ثابتة، لتصبح القاعدة الجديدة التي يتم عبرها حساب المكافآت غير محددة السقف في المستقبل.
لقد دعا هانت ومحافظ بنك إنجلترا أندرو بيلي قبل أقل من أربعة أشهر إلى ضبط الأجور في حفل عشاء أقيم في مانشن هاوس. ومما لا شك فيه أن الهيئات التنظيمية سوف تعمل على تعزيز هذه الرسالة بينما تجلس إدارات المصارف لتقسيم مجموع مكافآت نهاية العام. ولا يوجد وقت كافٍ لإصلاح التدابير المضللة (وحتى إن كانت حسنة النية) التي اتخذت في مرحلة ما بعد الأزمة والتي تحولت إلى تذكرة ذهبية للقلة المحظوظة. وقد كانت السلطات على حق في معالجة المشكلة، ويأتي الدور على القطاع المالي للتصرف بدوره بمسؤولية.
أخبار متعلقة :