بيروت - ايمان الباجي - عرفت صباح وهجاً لم ينطفئ، حتى عندما اعتزلت الغناء والإعلام، وجلست وحيدةً في غرفة فندقها. فهي التي عاشت عزاً فنياً لم تختبره أي فنانة أخرى من جيلها، أو من غيره، وهذه ليست مبالغة. فشهرة هذه النجمة الاستثنائية لطالما كانت خاصة، وفريدة من نوعها.
في حياة الصبوحة -كما يحلو للبنانيين أن يسمّوها- كثير من المحطات الخاصة والفنية، التي يصعب اختصارها في سطور. ففي كل محطة، كانت تسطر نجاحاتٍ سيخلّدها التاريخ، لتحفر اسمها في ذاكرتنا الشعبية.
ولأن نوفمبر/تشرين الثاني هو شهر “شحرورة الوادي” بامتياز؛ ففيه تمرّ ذكرى ميلاد ورحيل واحدة من أجمل الأصوات الغنائية في تاريخنا المعاصر، وصاحبة أثرى وأصعب تجربة فنية، ورمز الجمال والفرح والدلع، وأبرز مثال على جمال الشكل والروح.
كانت صباح في مخيّلة أغلب جمهورها، الفتاة المدللة الجميلة وصاحبة الصوت العذب التي ترتدي أجمل وأفخر الفساتين، وتعيش أجمل حياة؛ فتتزوج مراراً وتكراراً، وتكثر الشائعات حول حياتها، كما أنها تثير المشاكل بتصريحاتها. حياةٌ تمنى الجميع أن يعيش مثلها.
لكن رغم حقيقة بعض هذه التخيلات، فإن حياة الصبوحة الحقيقية كانت على النقيض من ذلك، بعيداً عن الأضواء والكاميرات؛ لدرجةٍ تجعلنا نتساءل: كيف استطاعت -وسط كل هذه المآسي والصدمات- أن تستمر في الغناء والتمثيل وبث الفرح من حولها؟ هذا ما سنحكي عنه في السطور التالية.
طفولة صباح.. بين القساوة والموت
دعونا نعد من البداية، إلى يوم 10 فبراير/شباط 1927، داخل منزلٍ صغير في الطرف الشمالي من بلدة “بدادون” التي تبعد 20 كيلومتراً عن بيروت.
في هذا المنزل، وضعت السيدة منيرة سمعان مولودها الثالث بعد ابنتين (جولييت ولمياء). ومع أول صرخةٍ للمولود، خاب ظنّ منيرة وزوجها جرجس (جورج) فغالي -صاحب صالون التجميل في بيروت- اللذين كانا ينتظران ولداً وليس بنتاً.
أطلق الوالد على المولود اسم جانيت، تيمناً باسم مطربة كان يحب صوتها في ذلك الوقت. وفيما لم تستطع الأم التعامل مع حقيقة أنها رُزقت مرة أخرى بفتاة، فقد عهدت بمهمة رعاية جانيت إلى شقيقتها الكبرى لمياء، التي كانت بدورها صغيرة.
كانت طفولة صباح صعبة ومليئة بالألم والموت والدم؛ فبعد أن جاء الصبي أخيراً، وأُطلق عليه اسم سيمون، رحل وهو صغير. ثم كانت الطامة الكبرى، عندما أصابت رصاصة طائشة جسد الصغيرة جولييت وهي عائدة من مدرستها.
ماتت جولييت أمام أعين جانيت وشقيقتها لمياء، في مشهدٍ قاسٍ على طفلتين صغيرتين، لم يجمّله إلا قدوم الطفل الجديد “أنطوان” لاحقاً.
عاشت جانيت في عالمٍ قاسٍ بين أمها وأبيها. فقد كانت طفلةً مليئة بالنشاط والحركة والشغب المترافق مع الدهاء، ما عرّضها للضرب كثيراً على يد والدها. وغالباً ما كان يُحكى عن شكلها الخارجي، وبأنها أقلّ جمالاً من شقيقتيها.
ومنذ صغرها كان الغناء ملجأها الوحيد، بتشجيعٍ واهتمامٍ كبيرين من عمّها الشاعر اللبناني الشهير -الذي يغرّد زجلاً أيضاً- الملقب بـ”شحرور الوادي”، أسعد الخوري الفغالي. وبعد خلافاتٍ عدة بين جانيت ووالدها حول الغناء، غالباً ما كانت تنتهي بالضرب، سمح لها بالغناء على مسرح المدرسة فقط.
لكن مع بروز نجم جانيت في الغناء أمام المدرسة والأهل والأقارب، رضخ الأب أخيراً لموهبة ابنته وسمح لها بأن تغني في الأفراح والحفلات الخاصة. ورغم ذلك، لم يكن الأمر سهلاً.
ففي مذكراتها، تقول صباح عن أول حفلةٍ لها: “حاولتُ أن أكفكف دموعي بعد فشلي، أو إصابتي بالبحة، ولكني عجزت. كانت دموعي تهطل ولا أقول تنهمر، لأن الصدمة كانت عنيفة، أني أريد أن أنجح مهما كلف الأمر، أني أريد أن أشق طريقي بأي ثمن”.
وتتابع قائلة: “أدرك أي طاقة فنية تضجّ في صدري؛ ولكن بدل أن ألقى العزاء من أمي، والأم ملاذ ابنتها، هجمت عليّ وانهالت بالضرب واللكم على وجهي وظهري وهي تصرخ: ما راح تخلصينا منك ومن دموعك؟ انقبري اتركي الفن وانضبّي. ثم تأملتني بازدراء، وقالت لأبي: دخلك، مين بدو يتزوج هالبشعة؟”.
عن أثر تلك الكلمات البالغ، تحدثت الصبوحة أيضاً: “قالتها وأنا ما زلتُ طالبة في اليسوعية.. قالتها وكنتُ خارجة للتو من أول حفلة غنائية فاشلة.. قالتها وكنت لا أزال أكفكف دموعي، وقد تركت في نفسي عقدة، حلّها مستعصٍ”.
عاشت صباح بين ثنائية العنف والمحبة؛ وبعد واقعة أمها، حاول والدها أن يطيّب خاطرها، فاقترح أن تتقدّم إلى الإذاعة اللبنانية عن طريق صديقٍ لعمها.
خطوات جانيت فغالي الأولى نحو النجومية
رسبت جانيت في الامتحان الأول، لكنها عادت ونجحت في الثاني؛ بعدما اشتغل عمّها الشاعر على ثقتها بنفسها، وجعل صديقه الملحن يوسف فاضل يقدّم أغنيةً لها بعنوان “خدني يا حبيبي معك” وغنتها أمام اللجنة، فنجحت.
عن تجربتها الأولى التي لم تنجح خلالها، تحكي صباح في مذكراتها: “كانت اللجنة الفاحصة مؤلفة من الأستاذين ميشال خياط ومحي الدين سلام، والد المطربة نجاح سلام. الأستاذ ميشال كان يبدو، بقامته الطويلة وصوته الأجش، كأنه سلطان تركي سقط عن عرشه وعُيّن في إذاعة بيروت. أما الأستاذ محيي الدين فكان أنيقاً، شامخاً، متغطرساً، كأنه مدير الأمن العام الفرنسي والبعبع المخيف كولومباني”.
وتتابع قائلة: “أدخلني إلى غرفةٍ غريبة وصامتة، انتصب فيها ميكروفون، وأفهموني أنه الأستديو، ثم أمروني بصوتٍ مرعب بأن أغني. كان السكون يخيّم على الأستديو كأنه قبرٌ مهجور، وكان كل ما حولي يرسم لي صوراً مخيفة من الأشباح والأطياف وأبالسة الجحيم. وفي هذا الجو الرهيب طُلب مني أن أغني، كأنهم يطلبون أن أعترف بجريمة لم أرتكبها. ومع ذلك غنيت.. غنيت أبو الزلف وأم الزلف. وعندما خرجتُ لأسمع النتيجة، لفظا الحكم المبرم: لا تنفع”.
لاحقاً، وبعد نجاحها في مسرحية المدرسة “الأميرة هند” التي لعبت خلالها دور الأميرة، بدأت أحلام الشهرة والنجومية تتبلور أمام جانيت فغالي أكثر فأكثر. تزامن ذلك مع غنائها في حفلات الضيعة والمناطق المجاورة وبعض الحفلات الخاصة، ومع تعويضها للوالد أزمة الكساد التي ضربت عمله. فالمال الذي كانت تجنيه تلك الطفلة الموهوبة، جعل الوالد يتغاضى عن عدم رغبته في غنائها.
أصبح اسم جانيت فغالي منتشراً في لبنان، وبدأت تكثر الأقاويل عن تلك الموهبة الصغيرة، حتى وصل الأمر إلى المنتجة آسيا داغر، من خلال مدير أعمالها وصهرها قيصر يونس الذي صودف وحضر مسرحية “الأميرة هند”.
طلبت آسيا داغر من يونس أن يجمع المعلومات عن تلك الفتاة، التي لم تتم بعد الـ17 عاماً، وتجهيز عقد عملٍ معها. وعن تلك اللحظة الحاسمة، تحكي صباح: “حضرت السيدة آسيا بنفسها إلى لبنان للتعرف علي عن قرب، ولم تتركني إلا وقد أعطتني عقدَي عمل في فيلمين من إنتاجها، مقابل 150 جنيهاً عن الفيلم الواحد. أحسستُ بأن الأحلام التي كنت أتخيلها بدأت تتحقق”.
وتتابع قائلة: “كاد والدي يقف حجر عثرة في طريقي، عندما علم أني سأغادر لبنان للعمل في السينما المصرية. ولكنه أمام رغبتي ولهفتي، وبعد أن تحدثت معه داغر، وافق مشترطاً أن يسافر معي حتى يرعاني ويشرف على مصالحي. فوافقت السيدة آسيا على طلبه”.
نجمة مصر التي يعنّفها والدها
في تلك الفترة، اختفى اسم جانيت فغالي لصالح صباح، هذا الاسم الذي أطلقه عليها الشاعر صالح جودت الذي اعتبر أن وجهها كان مشرقاً كنور الصباح. كما أن قراء مجلة “الصباح” المصرية أجمعوا على الاسم، بعدما وضعت آسيا داغر صورتها في المجلة، طالبةً منهم مساعدتها على اختيار اسمٍ فني لها.
بدأت رحلة صباح الطويلة والصعبة، على يد أكبر الملحنين، ثلاثي أم كلثوم المخضرم: محمد القصبجي، وزكريا أحمد، ورياض السنباطي. وكانت الانطلاقة مع فيلم “القلب له واحد” عام 1945، الذي قدّمت فيه مجموعة أغنيات من ألحان الثلاثي وكلمات بيرم التونسي، وبديع خيري، وصالح جودت، ومأمون الشناوي.
كما قدمت في العام نفسه فيلم “أول الشهر”، إلى جانب فيلم “هذا جناه أبي”. وحرصت على تقديم أغنية لبنانية في كلّ فيلمٍ شاركت به، بعد موافقة آسيا داغر. وفي هذا الإطار، كانت صباح تشرح للجمهور معاني كلمات أغنياتها اللبنانية، قبل غنائها على المسرح؛ في خطوةٍ ذكية منها لتقريب المسافات.
وكان صوتها يظهر في أوْجه عبر المواويل الجبلية اللبنانية، التي تحتاج إلى امتدادٍ في الصوت. فتنتقل بصوتها صعوداً من طرفه الثقيل إلى الحاد، وبالعكس، على طول 14 مقاماً سليماً. ونجحت في رهانها، فقد أحبّ الجمهور المصري هذا النوع من الأغنيات واعتبروه مختلفاً وجديداً.
في تلك الفترة، كانت صباح ترسل خطاباتٍ إلى والدتها في لبنان تشكو فيها من والدها، لنعود مجدداً إلى ثنائية العنف والمحبة؛ وهذه واحدة من أولى الرسائل، التي كانت عُرضت في برنامج “ساعة صفا” مع صفاء أبو السعود حين استقبلت صباح.
تقول في رسالتها: “صار اسمي صباح يا ماما اليوم، تعاقدت معي مدام آسيا على أن أمثل لحسابها عدة أفلام وليس فيلماً واحداً. اليوم غنيت في نادي لبنان في عيد استقلال لبنان، دخلت أستديو يا ماما ومثلت مع أنور وجدي أول مشهد من فيلم القلب له أحكام. فرح المخرج كثيراً وقال إني سأصبح قريباً نجمة مشهورة. كل الشركات عاوزة تتعاقد معايا يا ماما”.
وتتابع في رسالتها: “البابا يعاملني بقسوة، دائماً يصرخ في وجهي، أمس ضربني لأني أتحدث مع الفنان أنور وجدي في الأستديو. هو لا يسمح لي بالخروج إلى أي مكان، وعندما يحضر للمنزل أي ملحن، فإنه يبقى جالساً معنا في الصالة”.
هكذا عاشت الصبوحة خلال سنوات نجاحها الأولى.. تخطف الأضواء في مصر، وتحقق نجاحات كبيرة، وتقدّم كل عام على الأقل فيلماً سينمائياً واحداً، لكنها تعود إلى المنزل لتُعنّف من والدها لأسبابٍ تافهة.
شقيقها قتل والدتها
في تلك الفترة كانت أولى زيجات صباح من اللبناني نجيب شماس، الذي عارض دخولها الفن رغم وعده لها بدعمها فنياً. فارق السن بينهما كان كبيراً، ويُقال إنها وافقت على الزواج هرباً من بطش والدها.
لكن خيبة الأمل كانت كبيرة عندما اصطدمت ببطشٍ مماثل، يمنعها من التحليق عالياً. وتقول صباح عن هذا الزواج: “كان زوجي نسخة طبق الأصل من أبي، يفرض السيطرة ويأمر وينهي”.
وفي وسط كل تلك الآمال الضائعة والخلافات المستمرة مع زوجها، قرّرت أن تهرب من كل تلك الضغوطات وتلجأ إلى حضن أمها في بيروت، فكانت الصدمة الكبرى التي أحدثت جرحاً عميقاً في حياة صباح.
ففي طريقها إلى بيروت، عبر السفينة، أخبرها زوجها بالفاجعة: شقيقها أنطوان المراهق قتل أمها، ومن قيل له إنه عشيقها، في بلدة برمانا بمحافظة جبل لبنان. أفرغ مسدسه أو بندقيته -المعلومات ضئيلة في هذا الإطار- ثم غادر لبنان باتجاه سوريا.
حدث ذلك عام 1947، ودُفنت الوالدة في مكانٍ لم يعرفه إلا من وراها الثرى، ولم يخبروا ابنتها صباح بالأمر إلا بعد شهرين.
كانت في القاهرة يوم وقعت الجريمة في لبنان؛ ومع أن الصحف المصرية تناقلت خبر الحادث وأبرزته في صفحاتها الأولى بعنوان: “شقيق صباح يقتل أمه وعشيقها بالرصاص”، إلا أن زوجها نجيب شماس أخفى الخبر عنها إلى أن طلبت زيارة والدتها في لبنان.
هرب أنطوان إلى البرازيل حيث عاش طوال حياته باسم ألبير فغالي، ولم يُعرف عنه شيء إلا في العام 2018، حين نشرت ابنته صورةً تجمعها به للمرة الأولى بعد أكثر من 70 عاماً على الجريمة التي ارتكبها.
عن تلك الفترة، تقول صباح في مذكراتها: “كانت كارثة. تصوّر أن يفقد إنسان أمه وأخاه في لحظة واحدة. كانت صدمة، عُدت منها محطمة النفس، وعشت فترة طويلة أسيرة الحزن. أنعي أمي التي ماتت، وأبكي أخي الذي هرب. الله يسامحه رغم شناعة ما ارتكب”.
وسط كل تلك المآسي وخلافاتها مع زوجها، تضع صباح مولودها الأول الذي سمته على اسمها. خلال فترة الحمل توقفت عن العمل وأصبحت من دون مالٍ، خاصة بعد أن أقنعها زوجها بأن تستثمر ما معها في بناء عمارة في لبنان.
فدفعت كل ما تملك فيها، ثم باعها زوجها وأخذ مالها لنفسه. تروي صباح في برنامج “ساعة صفا” كيف طلبت من والدها دواء، وعندما جاء به وعلم أنها لن تدفع له ثمنه، أخذ الدواء وتركها!
بعد ولادة الطفل، يحدث الطلاق بين النجمة اللبنانية وزوجها الذي يأخذ طفله ليعيش معه ومع عمته وجدته، ويحرم صباح من ابنها لسنواتٍ طويلة.
زواج ثانٍ وطلاق ومعركة حضانة
في خمسينيات القرن الماضي، استحوذت الصبوحة على الأدوار السينمائية، فكانت نجمة دور العرض الأولى بلا منازع وشاركت في أكثر من 8 أفلام.
قدمت فيلماً مع المطرب سعد عبد الوهاب “سيبوني أغني” عام 1950، وثلاثة أفلام مع محمد فوزي كان أنجحها “الآنسة ماما” في السنة نفسها، ثم جاء “فاعل خير” عام 1953 و”ثورة المدينة” 1955.
كما تشاركت مع فريد الأطرش، الذي سيصبح جارها وصديقها المقرّب، فيلم “لحن حبي” (1953)، ثم “ازاي أنساك” (1956)، بعد فيلم “بلبل أفندي (1948). وقدّم لها ألحاناً خالدة مثل: “أكلك منين يا بطة”، و”يا دلع”، و”أحبك ياني”.
كانت صباح نموذجاً مثالياً للبطلة السينمائية في تلك المرحلة؛ فنانة شاملة، صغيرة في السن، دمها خفيف، شكلها جميل، وتجيد التمثيل والغناء والرقص. وتمكنت من أن تسحر الجمهور بطاقتها وصوتها وشكلها والبهجة التي تبثها في النفوس، من دون عناء.
في تلك الفترة، ارتبطت صباح بعازف الكمان الأشهر والأهم وقتئذٍ أنور منسي. كانت بداية موفقة للزواج، هدأت فيها روح النجمة قليلاً وأنجبت ابنتها هويدا، التي كانت غنت لها -قبل ولادتها- “يا هويدا”، ثم قدمت بعد الولادة “حبيبة أمها” و”أمورتي الحلوة”.
لكن مرحلة الهدوء سرعان ما انتهت، وظهرت الخلافات بين النجمة اللبنانية وأنور منسي، بسبب إدمانه لعب الميسر، كما روت هي مراراً في مقابلاتها.
وصل الأمر إلى الطلاق، وأخذ هويدا منها، فكانت الأزمة. لن تقبل أن يتكرر ما حدث مع ابنها، فبدأت رحلة القضايا والمحاكم حتى انتصرت وعادت هويدا إلى أحضان أمها، قبل أن تعود تدريجياً علاقة الصداقة بينها وبين زوجها السابق أنور من أجل ابنتهما.
ستصبح هويدا لاحقاً أكبر هموم صباح وأكثرها تعباً، وستتصدر عناوين الصحف ما بين مشاكل إدمان وهروبها من المصحات ومن شقيقها صباح، ومحاولات تمثيلٍ غير ناجحة، وصولاً إلى علاقةٍ شائكة ومعقدة جداً بينها وبين والدتها.
نضوج فني وعلاقة خاصة مع أم كلثوم
خاضت الصبوحة تجارب فنية جديدة مع عبد الحليم حافظ، ومنير مراد، والموجي، وكمال الطويل، الذي بدأت معه مرحلة النضوج الفني في أغنية “مال الهوى” التي أكدت قيمة صوت صباح وجودته، إضافةً إلى قدراتها الغنائية خارج إطار أغنيات الدلع أو الأغنيات الخفيفة.
وبالتزامن مع مرحلة النضوج الفني، عاشت صباح دائماً وسط علاقاتٍ كثيرة انتهت -أو كادت تنتهي- بالزواج، مثل قصتها مع الأمير الكويتي عبد الله مبارك، ورفض الأسرة المالكة في الكويت لتلك الزيجة.
أو مثل قصتها مع الممثل رشدي أباظة، والكاتب موسى صبري، وحتى الشائعات التي ربطت بينها وبين عبد الحليم حافظ وغيره من الفنانين. في تلك الفترة أيضاً، ارتبطت بالمذيع أحمد فراج بعد مشاركته لها في فيلم “ثلاثة رجال وامرأة” عام 1960، لكن الزواج انتهى سريعاً.
رغم كل تلك التجارب العاطفية غير الناجحة، استمرت صباح في التحليق عالياً بعالم النجومية، وتحقيق النجاح تلو الآخر في التمثيل كما في الغناء.
ورغم نجوميتها المطلقة في مصر، لم تنسَ يوماً لبنان. فقدمت العديد من المسرحيات اللبنانية، مع الرحبانية وفيلمون وهبي ووديع الصافي، التي توّجتها نجمةً على عرش الأغنية اللبنانية الجبلية من دون منازع.
في تلك الفترة، تزوجت صباح بالممثل والمخرج المسرحي وسيم طيارة، ثم النائب المليونير جو حمود، الذي كررت مراراً أنه بقي يحبها ويطمئن عليها حتى بعد طلاقهما.
وفي حلقة “ساعة صفا”، تروي الصبوحة موقفاً جمع بين جو حمود والسيدة أم كلثوم، التي لم تكن تحبه وتعتبره غير مناسبٍ لها، في احتفالٍ أقامته السفارة المصرية ببيروت عام 1970. تقول إنه عندما رأى حمود أم كلثوم، قال لها: “أهلاً بأعظم مطربة في الشرق الأوسط”. فكان ردّ أم كلثوم: “اللي مراته صباح ما يقولش كده”.
وفي كتابه “حكايتي مع أم كلثوم”، يتحدث رئيس تحرير مجلة “الشبكة” جورج إبراهيم الخوري عن ذلك اللقاء أيضاً، وعن جملة “النار والنور” التي قالتها له كوكب الشرق واصفةً الثنائي.
اقتربت أم كلثوم من الخوري حين رأت صباح مع جو حمود في الاحتفال، وهمست في أذنه: “عارف ما أحلى ما في صباح”؟ فسألها الخوري: “ماذا”؟ ردّت أم كلثوم: “أنها لم تظهر أبداً وحدها، إلا على المسرح. أما في الحياة العامة والخاصة، فمعها دائماً رجل”.
وعندما سألها الخوري: “ما رأيك بجو حمود”؟ أجابت: “شكله ليس شكل زوج، بقدر ما هو عاشق ذكي”. وحين حاول أن يستفسر، قالت: “أعني أن الزواج شيء، والعشق شيء آخر”. فعاد الخوري ليسألها: “هل تعتقدين أن زواجهما سيُكتب له النجاح”؟ لتردّ أم كلثوم: “راجع جوابي السابق”.
تدرك أم كلثوم جيداً قوة صباح الفنية، وكيف أنها لم تعتمد يوماً على أحدٍ من أزواجها في مسيرتها الفنية، وكيف أن أي زواجٍ لم يضف لها شيئاً على المستوى الفني. كانت صباح فنانة أصيلة وذكية، تعرف أن الاعتماد على ذاتها وموهبتها وقدراتها الفنية، إضافةً إلى مجهودها، هو الطريق الوحيد لتحقيق النجاح.
وعلاقة أم كلثوم بصباح خاصة جداً؛ فهي تعرفها منذ قدومها إلى مصر، عندما كانت أم كلثوم في ذلك الوقت نقيبة الموسيقيين، وكان على صباح أن تدفع جزءاً من قيمة عقدها للنقابة. لكن صباح اتصلت بها طالبةً منها العفو عن تلك النسبة، لأنها مازالت في بداية مشوارها. فسمحت لها أم كلثوم بالعمل من دون أن تدفع النسبة المحددة، ولكنها أخبرتها بأنه سيتعيّن عليها أن تدفع المبلغ عندما تجني المال، وهو ما وافقت عليه صباح.
صباح هي الفنانة العربية الثانية -بعد أم كلثوم- التي غنت على مسرح الأولمبيا في باريس، مع فرقة روميو لحود الاستعراضية منتصف السبعينيات، كما غنت على مسارح عالمية أخرى، مثل: دار الأوبرا في سيدني، وقصر الفنون في بلجيكا، وقاعة ألبرت هول في لندن، إضافةً إلى مسارح لاس فيغاس.
حققت الصبوحة نجاحاتٍ كبيرة، منذ بدايتها الفنية منتصف الأربعينيات وحتى رحيلها، وقد عرفت مجداً لم يعرفه كثيرون، ونالت العديد من الجوائز والأوسمة، كما منحها الرئيس أنور السادات الجنسية المصرية تكريماً لها.
ورغم كلّ ذلك العزّ، فإنها عاشت وحيدة في نهاية حياتها داخل غرفة فندقٍ صغيرة، من دون مالٍ ولا جاه ولا أصدقاء التمّوا حولها حين احتاجتهم. وفي 26 نوفمبر/تشرين الثاني 2014، رحلت عنا تاركةً تاريخاً طويلاً وحافلاً من الأغنيات الخالدة والمسرحيات والأفلام، لتبقى واحدة من أجمل وأهم المغنيات اللواتي أثرين المشهد الفني العربي.
عربي بوست