عود على بدء «2-2»

الدوحة - سيف الحموري - بقلم د. خالد أحمد عبد الجبار

Advertisements

في اليوم التالي استيقظ الحوذي من نومِه، ليجدَ نفسه في قصر فيروزي، مؤلف من ثلاثين حجرة فسيحة، مؤثثة بأفخر الأثاث، يرزح بالسجاجيد والتماثيل، وتنعكس أعمدة واجهته المترفة في صفحة بركة صافية، وتحيط به حديقة مترامية الأطراف تتخلّلها مجاري الجداول والبحيرات، لتبدأ رحلته، ناسياً كل ما كان له صلة بالماضي، عاش لنفسه ولأهوائه، وكلما انقضت سنة، اختفت حجرة من الثلاثين، فلا يعاد يُرى بابُها، ففطن أنها الطريقة!
ومضتْ السنون تباعاً، حتى العام الأخير، ولم تبق سوى حجرة واحدة لعام واحد، فأصبحَ يعاني أرقاً متواصلاً، فإن حصلَ وسمع صريرَ جندبٍ في البحيرة لم يغمضْ له جفن، فأمسى الليلُ هاجساً وعذاباً؛ وفي صبيحة أحد الأيام جلس في حجرته المتبقية حزيناً وحيداً وقد استبدَ بقلبِه اليأس، واعتلى صدره القنوطُ، وأفصح انحناءُ ظهرِه في جلستهِ تلك عن أثقالِ الحياة التي هرب منها، فتذكرَ الحمارَ، فهو من تبقى له من هذه الدنيا -إن كان ما يزال حياً- فحثَ الخطى نحو الإسطبل حيث أمرَ خدمه بأن يُوسعَ له فيه.
وجده هناك، وكم كانت سعادة الحمار عندما رأى صاحبه وقد تذكره وجاءَ لزيارتهِ بعد كلِ تلك السنين، كانت الشيخوخةُ والهزال الذي اشتغل في جسدِ الحمارِ قد أحزنتْ الحوذي، الذي طفقَ يمسح عنقه ويحتضنه باكياً.
جلسَ على الأرضِ وكذلك فعلَ الحمارُ، وأخذَ يحدثه بندم بالغ: «أفتقدت مذاقَ السعادةِ التي كنت أعيشها تحت ناموس الحب، أعلمُ أنه خطأ قد اقترفته ويصعبُ علي أن أجدَ له أعذاراً، ولا يمكنني إنحاء اللائمة على أحد، بيد أني لم أعدْ احتمل تأنيب ضميري».
ثم تنهدَ طويلاً، وأضاف:
وأيضاً سأفارق الدنيا بعد عام، بالتهام طوالسون لروحي؛ ونظر ملياً في الحمارِ وهو يتمتم: ليتك كنت تتحدث وتخبرني ماذا أفعل؟
عندها نهضَ الحمارُ، وأخذَ يخطُ بحافرهِ على الأرضِ خطوطاً غريبة، وقف الحوذي ليستوضح، فوجده يرسم نفسه والحوذي، ورسمَ تحت الأرضِ التي يقفان عليها بناءً مكوناً من عدةٍ حجراتٍ، جميعُها مضاءةٌ إلا واحدة، ثم رسمَ الحمارُ نفسه وهو يركلُ طوليسون لداخل الغرفة المظلمة بينما الحوذي بداخلها وقنينة، وأخيراً رسم طوالسون يتبخر لداخل القنينة في يد الحوذي.
أضاءتْ ومضةٌ مباغتةٌ عيني الحوذي وهب واقفاً وقال: «إن فهمتُ ما تصبو إليه، فهذا بناء تحت الأرض، ستكون فيه حجرة مظلمة، نستدرج طوالسون إليها، وينتهي معه كل هذا!»
فهز الحمار رأسه موافقاً.
ثم أصابه اليأس ثانية: ماذا عن القنينة؟ يبدو أن الشيخوخةَ قد نالتْ من كلينا؟
نهق الحمارُ ثم استدارَ نحو مضجعه، وهناك بدأ يحفر بحوافرهِ الأمامية، وتارة يزيح التراب بفمه، ثم أنه توقف وهو يحمل في فمه القنينة الزرقاء، عندها تذكرَ الحوذي ما فعله الحمارُ حين حكى طوالسون كيف حبسه ملكُ الجان، فتبسم برضا قائلاً: «اعتقد أنه من الأفضل إعادتها لمكانها، وسأشرع في تنفيذ مخططك».
تكتم في سرِ بنائه، فقد شعرَ وكأنه يركب متن قارب غير مأمون، وكل من حوله لا يضمن ولاءهم؛ وتناقل الخدمُ فيما بينهم بأنه يفرُ من الموتِ ببنائه قصراً منيعاً تحت الأرض، وكم أراحه ذلك، ومضى بلا كللٍ في خطتِه حتى جاء اليومُ الموعود، وكان مهيأً بما يحقق الغايةَ المرجوة، حيث اختبأ الحمارُ في حجرة منزوية، بينما انتظر الحوذي طوالسون في الحجرةِ التي تلي الباب، ليظهر مع دقةِ ساعةِ منتصف الليل -المنهية للأعوام الثلاثين- وهو يضحك ساخراً:
أكنتَ تعتقد بأنك تستطيعَ الهروبَ من مصيرك؟
يبدو أنك تكابد نفسك كي تتحاشى دفع ما عليك مقابل متع الثلاثين عاماً الماضية، وهذا أمر لا محيص منه، وهي بلا شك حال تساور من تعلقت روحه بالدنيا عند مفارقتها، بيد أني كنت آمل أن تكون روحك ملؤها الرضا
هل لي بطلبٍ أخير؟
لا تقل إنك تريدُ أعواماً إضافية، قالها ساخراً.
لا، فقط أريك شيئاً في الحجرة الأخرى.
لا بأس إن كان ذلك سيسقي روحَك قطراتٍ من الرضا.
فتقدمه بخطى بطيئة كي لا يشعره بالشك، وتبعه طوالسون. كانت الحجرةُ شديدة الظلمة؛ هنا خرجَ الحمارُ من مخبئه وركلَ طوالسون حتى أوقعه أرضاً، حينها أخذ الحوذي القنينة من رف بجواره، كانت لها لمعة يعرفها طوالسون جيداً فشهقَ شهقةً مجلجلة، وفرك الحوذي القنينة ثلاثاً، ووضع الغطاء على فوهتها ونزعه ثلاثاً، فتحول طوالسون إلى دخانٍ سرى نحو القنينة وأغلقها بإحكام.
كان الحوذي يحاولُ تحريرَ العجلة من الحفرةٍ التي وقعتْ فيها، غير أن أعوامَه الستين وهزالَ جسده لا يسمحان له بإكمال المهمة، استقامَ وهو ينهجُ من التعب، محدودب الظهر؛ -وبالرغم من شيخوخة الحمار الا أنه بدا أكثر صلابة من الجوادين اللذين يلبس الموتُ سحنتهما- فقرر السير وحيداً وقد أعياه التعب بعد أن فك وثاقهم من العربة، لكنهم تبعوا خطاه صامتين، يسمعون تمتمات أو ضحكات شاردة من بين شفتيه بين حين وآخر، وكان عليهم الهذيان معه، بعدما ضاعَ هداه مع نزيف أعوامه الماضية.

أخبار متعلقة :