الدوحة - سيف الحموري - قبل عقدين من الزمن، أعلنت القيادة الحكيمة في قطر عن مشروعها الطموح والرائد في مجال التعليم والذي عرف باسم «المدينة التعليمية في قطر»، هذا الفضاء الفكري والمعرفي الذي جاء ليحتضن العقول، ويتبنى المواهب، وينمي القدرات، في دولة كانت ولازالت عازمة على إحياء مشروع النهضة العربي بنسخته القطرية التي تسعى إلى إطلاق قدرات الانسان الكامنة من خلال نموذج المدينة المتعددة.
منذ اللحظة الأولى لإطلاق المشروع، نجح القائمون عليه في استقطاب عدد من الجامعات العالمية التي تعد الأفضل في مجالات معينة ليكون لها فروع في المدينة التعليمية، وتعمل هذه الفروع على نقل تجربتها الرائدة في مجال التعليم العالي والبحوث ضمن مجمع تربوي قائم على التميز الأكاديمي والبحثي يعمل على تعزيز مكانة دولة قطر كمركز تميز عالمي في مجال التعليم والبحوث.
خلال هذين العقدين، كان هنالك ارتباط وثيق بين الجامعات التي تم استقطابها والتخصصات التي تم اختيارها والاتفاق عليها مع الخطة التنموية لدولة قطر، فعندما شرعت الدولة في تطوير نظام الرعاية الصحية في قطر استقطبت المدينة التعليمية جامعة ويل كورنيل للطب لتكون أول جامعة تقدم برنامج دكتور في الطب في دولة قطر كافة، لإعداد جيل من الأطباء المميزين والمؤهلين لدخول قطاع الصحة.
وعندما استثمرت الدولة في تطوير قطاع الطاقة، استقطبت المدينة التعليمية جامعة تكساس أي أند إم المتخصصة في برامج الهندسة لإعداد جيل متمكن من المهندسين وإتاحة المجال للنساء للانضمام لكافة فروع الهندسة، وارتبطت الجامعات الاخرى بالمشاريع الوطنية الكبرى لتطوير القطاعات الحيوية في البلاد كقطاع الاتصالات وقطاع الإعلام وقطاع الفنون. كما تنامى دور دولة قطر الدولي الذي حتّم استقطاب جامعة متخصصة في مجال الشؤون الدولية.
ومع مرور الوقت، تطورت فكرة المدينة التعليمية بشكل أكبر لتكون منصة وطنية لإطلاق المشاريع العلمية والبحثية الرائدة وجاءت بالتزامن مع إطلاق مؤسسة قطر للتربية والعلوم وتنمية المجتمع لعدد من المراكز الداعمة للبحوث والتطوير والابتكار مثل الصندوق القطري لرعاية البحث العلمي، وواحة قطر للعلوم والتكنولوجيا لخلق جسور متعددة بين القطاع الأكاديمي والقطاعات الأخرى في البلاد، بهدف نقل المعرفة من المعامل والمختبرات إلى مختلف القطاعات والاستفادة من مخرجات البحث العلمي خلال رحلة تطوير القطاعات الحيوية.
واستكمالاً لدور المدينة التعليمية في مجال البحوث والتطوير والابتكار، أعلنت مؤسسة قطر عن ولادة ثلاثة معاهد بحثية وطنية في مجالات متعددة مثل: الصحة والبيئة والطاقة والحوسبة لتكون مختبرات علمية تمكّن الباحثين والطلبة من التصدي للتحديات الوطنية الكبرى من خلال ابتكار الحلول القائمة على العلوم والبحوث، ولتكون جسراً بين حاجة القطاعات الملحة للابتكار وبين ما تحويه الجامعات من كنوز لا تقدر بثمن، ألا وهي العنصر البشري في تلك الجامعات بما لديهم من معرفة وعلم.
وجاءت لحظة الإعلان عن تأسيس جامعة حمد بن خليفة كأول جامعة وطنية بحثية في المدينة التعليمية، والتي بنيت على قاعدة بحثية متينة متمثلة بالمعاهد الوطنية الثلاثة، وهي: معهد قطر لبحوث الطب الحيوي، معهد قطر لبحوث البيئة والطاقة، ومعهد قطر لبحوث الحوسبة، والتي ساهمت في تشكيل جامعة وطنية قائمة على البحوث والابتكار، تستقطب الكفاءات الوطنية والعالمية لدراسة تخصصات فريدة ومرتبطة أيضاً بالتحديات الكبرى في دولة قطر والعالم مثل الأمن السيبراني، وأمن المياه، وأمن الطاقة، والتحديات الصحية والبيئية وغيرها من التحديات.
وبعد مرور عقدين من الزمن على استقطاب الجامعات وبناء معاهد البحوث ومراكز الابتكار واستكمال مشاريع البنية التحتية الخاصة في المدينة التعليمية، اختارت قيادة مؤسسة قطر تبنّي نموذج فريد من نوعه على المستوى الوطني والعالمي وهو «المدينة المتعددة» وهو نموذج تكاملي يعزز العمل التعاوني عبر مختلف القطاعات والتخصصات من خلال تحقيق التكامل بين مؤسسات التعليم العالي العالمية والكيانات البحثية ومراكز الابتكار يهدف إلى تحسين تجربة الطلاب التعليمية من خلال نموذج المدينة المتعددة.
واليوم، كباحث متأمل لرحلة المدينة التعليمية على مدار عقدين من الزمن، أتمنى من القائمين عليها المحافظة على نفس الروح الريادية التي تحلّى بها مؤسسو هذا النموذج الفريد لضمان استمرارية دور التعليم كقاطرة للعملية التنموية في البلاد. وقد أخبرنا التاريخ أن المؤسسات التعليمية كلما حافظت على ريادتها وتجاوزت فكرة مجاراتها للحاضر في خطى استباقية نحو تصميم المستقبل وتشكيله، كلما كانت الدول والمجتمعات على جاهزية عالية لتحقيق مشروع النهضة الحقيقي.