الارشيف / حال قطر

الخفافيش البيضاء

الدوحة - سيف الحموري - بقلم د. خالد أحمد عبد الجبار

لطالما كانت حياة ماجد طافحة بالأسى، وهو اليوم في سن الخمسين أكثر من أي وقت مضى، فهو يعاني من إنهاك شديد ونوبات شقيقة استدعت بقاءه طريح الفراش في غرفة مظلمة لفترات طويلة من النهار خلال سنة ماضية، ومعها كانت صحته تتدهور يوماً بعد يوم، ما جعل السيد راسم - رب عمله - يستدعيه ويقسو عليه، طالباً إياه الجدية أو المغادرة.
كان غلو في مذلة لا داعي لها، ستستجلب مذلات أخرى في حال لم يغادر أو استعضل مرضه، لكنه حافظ على رباطة جأشه، وإن بدى عليه الاضطراب، فقد كان يأمل أن يرى منه عرفاناً على سيرته الحسنة على مر عقود من التفاني، أو أن يكون أكثر مراعاة.
وفي المساء خرج ماجد مع كلبه الهرم للغابة بحثاً عن شيءٍ يصطاده وبعض الحطب للتدفئة، ثم هطلت الأمطار بغزارة، فبحث عن مكانٍ يلتجئان إليه، فوجد كهفاً صغيراً فولجا داخله، ومع لمعة البرق نبح الكلب بقوة فطارت مجموعة من خفافيش بيضاء، بدت كالأشباح، فتملكه الخوف، وفي لحظات كانت بعضها قد طالت الكلب واستطاعت مص بعض دمه، ثم تقيأت القليل منه على يده وهي عائدة لمكمنها، فشعر بحالة غريبة جراء الدم الذي امتصه جلده، ولمعت ذكرى للكلب في مخيلته، لم يفهمها لقصر مدتها، ومع لمعة برق أخرى طارت الخفافيش نحو الكلب ثانية، فتركها تفعل ما يحلو لها، وفي كل مرة كانت تنجح في مص دمه تتقيأ عليه بعضاً منه، وتتكرر الحالة وتتابع ذكريات الكلب في مخيلته، حتى سقط الكلب ميتاً.
توقف المطر، فخرج للغابة وقد اعترته قوة لم يشعر بها من قبل، بل إنه اكتسب حاستي شم وسمع قويتين جعلته يدرك وجود أرنب في الجوار، فانقض عليه وأمسك به حياً، وقرر العودة للكهف لإطعام الأرنب للخفافيش، وتوجه مسرعاً - على خلاف حالته السابقة من الإنهاك-، وما إن وصل إلى الكهف حتى أثار بلبلة استفزت الخفافيش، ثم رماه بقوة لداخل الكهف فانقضت عليه الخفافيش بلا رحمة، وقبل عودتها حلقت فوقه وتقيأت من دم الأرنب على صدره العاري بعد أن خلع سترته، ابتهج بحالة مصحوبة بذكريات الأرنب عن صغاره المردومة في حفرة، فغادر مندفعاً وبسرعة غير مسبوقة نحو موقع الحفرة ليجد الصغار كما في الذكريات، توجه بعدها لمنزله مزهواً وكأن قوة سحرية جعلت شجرة هالكة تعاود الاخضرار.
وفي صباح اليوم التالي اضمحلت تلك الحالة وفقد معها إحساس القوة، فشعر بإحباط وضعف شديدين، ومكث من حينها متهالكاً لا يبرح مقعده - نهاراً- أمام الغابة لعدة أيام، متكئاً بكلتي يديه على عصاه، في وضعية الإعياء.
وفي أحد الأيام كان جالساً على هيئته تلك، فجاءه قط يمشي باطمئنان، فأمسك به وأطعمه من بقايا طعام بحوزته، ثم توجه نحو المنزل وأحضر وعاءً بغطاء وأدخل القط فيه وأحكم الإغلاق، وتوجه نحو الكهف، وما إن وصل إلى هناك حتى فعل بالقط ما فعله بالأرنب فانقضت الخفافيش على القط بلا رحمة، ولم تنس أن تتقيأ على صدره العاري ما اعتادت فعله، ومعها ذكريات قصيرة للقط وهو يقضي على أفعى سامة في حديقة منزله!
شعر بشيء من الذنب، غير أن قوة القط سرت في جسده، وكأنما نشط من عقال.
فغادر المكان وهو يترقب ترقب الفهد وقد عزم على نقل الخفافيش لقبو منزله إيذاناً بحياة جديدة، قرر أن يعيشها مهما كانت الكلفة!
وبالفعل أعد المكان قبل أن ينام، وكم كانت دهشته بالغة حين سمع جلبة تصدر من القبو أثناء نومه، وذهب ليستكشف الأمر فوجد الخفافيش قد اقتحمت المكان عبر فتحة صغيرة، واستقرت مقلوبة على سقف القبو، راعه ذلك، فقد اختارته كما اختارها!
وفي صبيحة اليوم التالي، ومع البقية المتبقية من قوة القط اصطاد عدة أرانب ليطعم الخفافيش، ويغذي نفسه؛ أصابته الحالة، غير أن قوة دمائها كانت أضعف من دم القط، وهنا قرر البحث عن حيوانات أقوى تمده بشعور التفوق على الدوام.
بالفعل كانت حياة متحولة، مفعمة بالنشاط، وأصبح عمله محط إعجاب الجميع، غير أنه مع الوقت احتاج أن يغادر موقعه عدة مرات في النهار لتغذية الخفافيش وتقوية نفسه، أما الحالة فما عادت كما كانت، والذكريات باتت رتيبة، وطلبها للدماء أصبح أشد، حتى حدث أمرٌ غريب، فقد هاجمه خفاش في إحدى الليالي في حادثة استثنائية، ثم تقيأ بعض دمه على يده عمداً.
فتشكلت أمنياته القابعة في خفايا نفسه أمام عينيه، ورأى حاله يملك أعمال السيد راسم، هنا خلص لتجربة جديدة من دماء البشر، جعلته يأخذ كل يوم خفاشين ويتجه بهما نحو النوافذ المشرعة من بيوت البلدة مساءً، ويطلقهما ليقوما بمص دم الضحية وهو نائم، ويبدو أنها تخدر المكان قبيل عضه ومص الدم، فلا يحس معها بشيء؛ وما إن تغادر النافذة حتى تتقيأ عليه لتمنحه ذكريات وظفها لابتزاز الناس أو لتفسير المنامات، واشتهر أمره بالقدرات الخارقة، وبات مهاباً.
بدأ خطته للاستحواذ على أعمال السيد راسم، بزيارته ليلاً مع خفاشيه على فترات متقطعة، وكانت متعته تتضاعف، متعة «إضعاف السيد راسم»، وذكرياته التي عرفته بنقاط قوته وضعفه، ومعها بدأ يسيطر عليه من خلال إيهامه بقراءة أفكاره تارة، وتارة بتفسير أحلامه، فأصبح كاتم أسراره والمدبر لأموره، ومع كثرة الزيارات والتعرض لتلك العضات بين الفينة والفينة أصابه مرض عضال، وكلفه بإدارة أعماله، فأحكم القبضة على مقدراته وسط ذعر الجميع، وعدم قدرتهم التصدي لمطامعه، واضطر السيد أن يعرض بعض أملاكه للبيع حتى يتمكن من العلاج فابتاعها ماجد، أما أعماله فبدأت تخسر، حتى أفلس ومات مغبوناً، ليستولي على بقية عقاراته، ويغدو السيد بلا منازع.
بدا أنه نجح في تحقيق ما أراد، إلا أن سكان البلدة بدأوا تحاشيه، فمنظره أصبح مخيفاً، ويكاد لا يظهر نهاراً، بل يمشي ليلاً في حالة من الاضطراب، بقفصٍ مغطى يحمله على ظهره، فأُقفلت دونه الأبواب والنوافذ، ولاحقاً ما عادت الحيوانات تُشبع نهم الخفافيش، فبدأت تهاجمه فرادى من حين لحين، وهو ينحل ويذبل عوده، كشجرة لم تروَ من زمن. وفي ليلة قمراء جاءهم بغزال فلم يلتفتوا إليه، بل انقضوا على ماجد والتهموه عوضاً عن مص دمه، وغادروا القبو نحو الكهف، في انتظار من سيستعيدونه من المحبطين!

Advertisements

قد تقرأ أيضا