ابوظبي - ياسر ابراهيم - الثلاثاء 31 أكتوبر 2023 11:19 مساءً - لا يتطلب الأمر مراجعة دقيقة للإحصاءات الاقتصادية حتى ندرك أن مستويات الدخل في الولايات المتحدة تجاوزت بكثير مثيلاتها في بريطانيا في السنوات الأخيرة. بضع دقائق على شبكات التواصل الاجتماعي، تيك توك أو إنستغرام، ستفي بالغرض، حيث ستواجه سيلاً من مقاطع فيديو تصور بذخ الاستهلاك الأمريكي مع أماكن سكن فخمة كالقصور.
ندرك ذلك، لكن من دون البحث جيداً في البيانات، فإنك قد تغفل فارقاً بسيطاً لا يحظى بالتقدير الكافي، وهو أن الفجوة الضخمة في المكاسب لصالح أمريكا تقتصر على فئة الخريجين.
أما البريطانيون الذين توقفت دراستهم عند سن 18 عاماً دون الحصول على شهادة جامعية، فإنهم يتقاضون أجراً يبلغ في المتوسط 14 جنيهاً استرلينياً في الساعة وفقاً لتقديرات عام 2022 (أي حوالي 18 دولاراً بعد تعديل فروق الأسعار)، في حين يتقاضى نظراؤهم في الولايات المتحدة دخلاً أعلى بفارق ضئيل، يبلغ 19 دولاراً في الساعة.
وبعيداً عن هذه الملحوظة الداعية للتفاؤل النسبي، فإنني أنصح الخريجين البريطانيين بتجنب التركيز على ذلك.
ففي العام الماضي، كان متوسط دخل هؤلاء الخريجين في الساعة 21 جنيهاً استرلينياً، أو ما يزيد قليلاً على 26 دولاراً. يعني ذلك زيادة بنسبة 47 % عن نظرائهم من غير الخريجين الجامعيين.
فلماذا كل هذه الكآبة؟ السبب هو أنه على الناحية الأخرى من الأطلسي، كان الخريجون الأمريكيون يحصلون على ما يقرب من 36 دولاراً في الساعة. عشية الأزمة المالية العالمية قبل 15 عاماً، كان دخل الخريجين البريطانيين أقل بنسبة 8 % فقط من خريجي الولايات المتحدة؛ لكن هذه الفجوة قد اتسعت إلى 27 %، وهؤلاء هم في الأساس الأشخاص نفسهم.. العمر نفسه.. بلغوا محطات تعليمية مماثلة، ويتزايد تعرضهم للثقافة نفسها، خصوصاً مع طمس الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي للحدود الوطنية. ومع ذلك، تحصل مجموعة منهما على أجر أعلى بنسبة 40 % عن الأخرى.
فما الذي يمكن أن يفسر هذا الاختلاف الضخم؟ هل الخريجون البريطانيون ببساطة أقل مهارة من نظرائهم الأمريكيين؟ أو أقل كفاءة في المجالات التي تدفع أكثر؟ التذمر الشائع هنا هو أن الناس يحصلون على عدد كبير جداً من الشهادات غير المرغوب فيها، لكن نوعية المواد التي تمت دراستها متشابهة: 34 % من الخريجين الأمريكيين الذين تتراوح أعمارهم بين 25 و60 عاماً درسوا العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات (STEM) مقابل 30 % في المملكة المتحدة.
يعني ذلك أن الخريجين البريطانيين يتمتعون، بشكل عام، بالمهارات اللازمة للحصول على وظائف تفي باحتياجاتهم الأساسية. المشكلة ببساطة هي أن هذه المهارات مطلوبة بشكل أعلى بكثير وبمقابل مادي أكبر في الولايات المتحدة مقارنة بالمملكة المتحدة.
وفي دراسة رائدة أجرتها جامعة هارفارد ونشرت هذا العام، أظهرت آنا ستانسبيري، الأستاذ المساعد لدراسات العمل والتنظيم في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، أنه على الرغم من زيادة نسبة الخريجين الجامعيين في القوى العاملة بالمملكة المتحدة على مدى السنوات الخمس والعشرين الماضية، فإن علاوة الأجور التي يتقاضونها مقارنة بغيرهم من غير الخريجين قد انخفضت.
وبالتالي يمكننا أن نستنتج أن المعروض من العمالة الماهرة في بريطانيا يفوق في الإجمال الطلب على نوعية الوظائف المتقدمة. وحدها لندن، هي المدينة القادرة على مواكبة العرض والطلب من ذوي المهارات العليا مع عدد الوظائف ذات الأجور المرتفعة.
وقد توسعت في تحليل ستانسبري ليشمل الولايات المتحدة، واكتشفت التناقض الصارخ. في جميع أنحاء البلاد تقريباً من بوسطن إلى سان فرانسيسكو، ظلت علاوة أجور الخريجين ثابتة، أو ارتفعت بعض الشيء، مع ارتفاع المعروض من الخريجين. ويتوفر في أمريكا كم هائل من الوظائف المربحة والتي تتطلب مهارات عليا وتسعى لاجتذاب أفضل المرشحين، بينما يوجد في بريطانيا عدد هائل من المرشحين المهرة الذين يتنافسون على عدد صغير من فرص العمل لخريجي الجامعات المرموقة.
والنتيجة هي أنه في معظم أنحاء بريطانيا، يعمل أكثر من ثلث الخريجين في وظائف لا تتطلب شهادة جامعية، وحتى في لندن تبلغ النسبة 25 %، كما يعد الحصول على علاوة مقابل تميز المهارات صعب للغاية عندما تكون زائدة على احتياجات الوظيفة.
إن حل مشكلات الخريجين في بريطانيا لن يكون سهلاً أو سريعاً. وعلى جانب الطلب، يتعين على بريطانيا أن تأخذ على محمل الجد مشروع رفع مستوى المناطق الأخرى خارج لندن، ووضع إيجاد وظائف للخريجين على هذه الأجندة، باعتبار أن الخريجين في العاصمة يحصلون على علاوة أجور مقابل مهاراتهم أعلى بكثير من تلك المقدمة في أي مكان آخر، لأن لندن تعد وجهة جاذبة للاستثمار في الوظائف عالية القيمة، كما هو الحال مع كل دفعة من الخريجين.
وفي نظر عدد كبير جداً من المدن والمناطق الأخرى في بريطانيا، فإن عقوداً من الإهمال من المشرعين تعني أن هذه الأمور لا تنطبق عليهم. وعلى جانب العرض، يرى البعض أن بريطانيا يجب أن تقلل من عدد المتقدمين إلى الجامعة، غير أن البيانات لا تدعم ذلك.
وهكذا، فإنه من الواضح أن القوى العاملة الماهرة في المملكة المتحدة غير مستغلة بالقدر الكافي، ولكن النتائج الأفضل كثيراً التي حققتها أمريكا بفضل أعداد مماثلة من العمالة الماهرة تشير إلى أن بريطانيا مثقلة بضعف الطلب على المهارات القيمة، وليس الإفراط في المعروض من المهارات. والتصحيح يجب أن يكون من خلال توفير الوظائف المناسبة.
وفي نهاية المطاف، تأتي مشكلة علاوة أجور الخريجين نتاجاً لعلة أكثر اتساعاً في المملكة المتحدة، وهي الفشل في إعادة تنشيط الاقتصاد في أعقاب الأزمة المالية، مع عقود من نقص الاستثمار.
أخبار متعلقة :