تجزئة الاقتصاد العالمي تقيد بقاء الدول على الحياد

ابوظبي - ياسر ابراهيم - الأحد 6 أكتوبر 2024 12:31 صباحاً - مارتن ساندبو

Advertisements

تساءلت عمّا قد تفعله الدول التي لا تنتمي إلى أي من التكتلات الاقتصادية العالمية، إذا ما أُجبرت على الاختيار بين هذه التكتلات. لكن ذكّرني أحد القراء، بضرورة تبرير فرضية مثل هذه التساؤلات. إذ، لِمَاذا قد يتعين على الدول الاختيار بين هذه التكتلات من الأساس؟ وكيف يمكن إجبارها على الاختيار؟.

أكتب عن هذا من برلين، حيث توجد رغبة واضحة «لإبقاء الأبواب مفتوحة» مع الصين، رغم كل شيء، ومع الجميع تقريباً بصفة عامة. وحسبما أخبرني أحد أصحاب الأعمال، لم تتمكن شركته من تحمّل قطع العلاقات تماماً مع السوق الصينية، ثم أوضح قائلاً: «بإمكاننا فعل ذلك، مع ضرورة تحمّل الخسارة، لكن ما الفائدة المرجوة؟».

يشير هذا على نحو جيد إلى استمرار وجود قدر كبير من المقاومة من جانب الشركات، أو في أوروبا على الأقل، لتقليص العلاقات التجارية حتى مع الخصوم الجيوسياسيين، وهو الأمر المغري للغاية بالتفكير في أن الأصلح للمصالح المالية، هو سياسات فاضلة في الوقت ذاته.

ومع ذلك، ومثلما سلّط ما كتبه زملائي عن القومية الاقتصادية الجديدة، فإن كثيراً من الحواجز التي توضع في الوقت الراهن أمام التجارة والاستثمار، تُعزى إلى اعتبارات الأمن القومي وعوامل جيوسياسية.

وبالتأكيد، ومثلما أشرت مراراً، فإن الأمر يعود بنسبة كبيرة إلى إضفاء الطابع الإقليمي، وليس إلى انتهاء العولمة بصفة عامة. وفي حين قد يبدو أن هذه الحواجز ينبع معظمها من الولايات المتحدة، وإلى حد ما من الاتحاد الأوروبي، الخائف من الصين، والعازم على مقارعة روسيا، فإن كافة التكتلات تشارك فعلياً في هذا الوضع.

ولعلنا يمكن أن نشير هنا إلى مرور أكثر من عقد، منذ أن حظرت الصين للمرة الأولى صادرات المعادن الأرضية النادرة لأسباب جيوسياسية.

ودعونا نركز على البلدان غير المنتمية إلى تكتلات، أي تلك التي لا ترتبط بصورة وثيقة مع أي تكتل. لِمَ لا يمكن لهذه البلدان المشاركة مع الجميع، وأن تتسم معاملات كافة التكتلات معها بالسلاسة؟ إليكم بعض بالطرق التي يمكن لهذه الدول بها محاولة تفادي التأثر بالصدوع الآخذة في الظهور على البنيان الاقتصادي العالمي.

تتمثل الاستراتيجية الأكثر وضوحاً في تحويل هذه النزاعات، إلى مصدر للكسب عن طريق أن تلعب دور «الدول الموصلة»، أو ما قد يطلق عليها «دول العبور».

وتنطوي هذه الطريقة على أن تكون الدولة حلقة وسيطة في سلسلة التوريد أو الملكية. فعلى سبيل المثال، يوجد لدينا مزيد من المدخلات الصينية إلى المصانع الغربية الآتية من فيتنام، أو شركات صينية تسعى إلى الاستحواذ على حصص في مؤسسات أسترالية أو إيرلندية، عن طريق شركات تابعة مُسجلة في سنغافورة.

قد يُفلح ذلك لبعض الوقت، لكنه قد لا يجدي نفعاً في النهاية، مع تكتل اقتصادي كبير، يرغب في التقليل من انكشافه على تكتل آخر بصورة حقيقية، وليس لغرض الاستعراض. وهناك أدوات قانونية موجودة بالفعل من أجل عرقلة هذه الوساطة.

ومثال على ذلك، يتم استخدام قواعد المنشأ لفرض تعريفات على طول سلسلة التوريد، وليس فقط على البلد الأخير الذي انطلقت منه الشحنة، ويمكن تعريف القيود على الملكية بالملكية الانتفاعية النهائية، وليس فقط المقار المُسجلة للشركات في الواجهة.

وثمة استراتيجية أكثر تطوراً، تتمثل في التحايل على التعريفات الجمركية، عن طريق نقل الإنتاج إلى دولة مضيفة، تتمتع بعلاقات طيبة مع سوق التصدير النهائية. وتُعد مصانع إنتاج السيارات الصينية في المكسيك، ومصانع البطاريات في المجر، خير مثال على ذلك، لأن عملية الإنتاج تتم فعلياً في التكتلات الأمريكية الشمالية أو الأوروبية. ولا يتم تطبيق التعريفات الجمركية، بافتراض أن الإنتاج يحدث فعلياً وبصورة كافية، وليس مجرد إعادة تغليف.

في واقع الأمر، لا يمكن اعتبار ذلك التفافاً على التجزّؤ، وإنما يُعد تجزّؤاً في حد ذاته. كما أنه تبقى لدى السلطات أدوات من شأنها مواجهة ذلك، وهو ما تبرهن عليه أمثلة مثل رفض الولايات المتحدة لشركة «بايت دانس» المالكة لمنصة «تيك توك»، والحظر الألماني على الاستحواذ الصيني على شركتين لتصنيع الرقائق.

وهناك استراتيجية للتكتلات، تقوم على استهداف التكنولوجيا. فقد باتت الرقابة الأمريكية على الصادرات، التي طالت شركات أوروبية، مثل شركة إيه إس إم إل المصنعة لمعدات تصنيع الرقائق، معروفة حالياً.

كما أننا نشهد في الوقت الراهن حظراً متزايداً على نقل التكنولوجيا الابتكارية. فقد حظرت إسبانيا بيع التكنولوجيا الإسبانية للسكك الحديدية للمجر لأسباب أمنية. من الواضح أن مدريد تخشى المجر، التي تحاول جاهدة أن تكون «دولة وسيطة»، رغم ارتباطها الذي لا مفر منه باقتصاد الاتحاد الأوروبي. وتخشى مدريد أن تتشارك المجر هذه التكنولوجيا مع روسيا.

ويُعد القرار الأمريكي بحظر برمجيات السيارات الصينية داخل الولايات المتحدة، مماثلاً لذلك، حيث يمثّل ضربة لاستراتيجية التحايل على التعريفات التي تنتهجها الشركات الصينية العاملة في المكسيك.

وإذا أمكن لمصانع السيارات في المكسيك، التي تعود ملكيتها إلى شركات صينية تجميع السيارات، دون وجود مدخلات صينية الصنع، ولا تحتوي إلا على برمجيات غربية الصنع، فلن تكون هناك قيمة مُضافة كبيرة، يمكن للصين أن تستفيد منها. إذن، ما العائد حينها من ذلك؟.

في النهاية، تتداخل هذه الأدوات. ويمكن أن تكون القيود على الملكية مانعة لنقل التكنولوجيا، على سبيل المثال. لكن إنفاذ هذه القيود معاً، لن يدع مجالاً كبيراً أمام الدول، لتظل متماشية للغاية مع مختلف التكتلات. ولم نتحدث حتى اللحظة عن إمكانات فرض عقوبات صريحة، حتى ولو كانت العقوبات ثانوية.

إذ يمكن للولايات المتحدة، على سبيل المثال، أن تجبر المؤسسات المالية على الاختيار بين، إما الوصول إلى النظام المالي المستند إلى الدولار الأمريكي، أو خدمة أي من العملاء الذين فرضت عليهم عقوبات. وبطبيعة الحال، تختار الغالبية العظمى البقاء في معيّة الولايات المتحدة، ما لم يكن إنفاذ التدابير متسماً بالضعف، وفي هذه الحالة، ستحاول الالتفاف على الأمر، حتى يُفتضح أمرها.

هذا كله، ولم يتم التطرق إلا إلى النذر اليسير من إمكانية التجزّؤ الناجمة عن فرض القيود على البرمجيات، وكذلك القيود على نقل البيانات، الذي يمكن أن يكون له التأثير ذاته. لكن التداعيات الناجمة عن القيود على برمجيات السيارات، ستكون بعيدة المدى.

وإذا ما كانت القيود ستُفرض على السيارات، فما المانع من فرضها على أي شيء آخر مرتبط بالإنترنت؟ وإذا ما اتصلت أشياء أكثر بإنترنت الأشياء، وإذا أصبح الأخير هذا إنترنت الأشياء المُجزّأ، فمن الممكن أن تتحوّل القيود على البرمجيات والبيانات إلى عراقيل سريعاً أمام تجارة السلع المادية.

وربما حينها لن يتبقى أمام الدول غير المنتمية في هذه الحالة، إلا خيار الانضمام إلى سلاسل توريد متعددة ومتوازية، على حساب الازدواجية، أو التجارة في السلع الأساسية والمواد الخام، التي يوجد طلب عليها في كافة التكتلات. ولن يكون ذلك بديلاً جذاباً، عندما يتعلق الأمر باختيار جانب دون الآخر.

وإجمالاً، تتمتع التكتلات الكبيرة بأدوات أكبر لفرض تجزّؤ إقليمي للاقتصاد العالمي مما حاولت فعله حتى الآن. ولكن ما إن كان من الحكمة استخدام هذا، سيكون سؤالاً مختلفاً. ومع ذلك، لن يكون من الذكاء للدول غير المنتمية، أن تظن أنها قادرة دوماً على تفادي الانضمام إلى جانب ما.

أخبار متعلقة :