ابوظبي - ياسر ابراهيم - الأحد 15 أكتوبر 2023 11:32 مساءً - تخيل أن تصطف أمامك كل شهادات الوفاة التي صدرت في بلد معين في 10 أكوام، بحيث يكون أولئك الذين تمتعوا بطول العمر على اليسار، وأولئك الذين ماتوا بصورة مأساوية في عز صباهم على اليمين.
وفي الكومة أقصى اليسار، يتم جمع أصحاب الحظ الأوفر في المجتمع: من نالوا أعلى الدرجات على مقياس الجينات، والوظائف، والنتائج المنجزة. واليوم، في البلدان المتقدمة، سيظهر متوسط الشهادة التي يتم انتزاعها من هذه الكومة أن العمر عند الوفاة كان في أواخر التسعينيات، وينطبق هذا على الوفيات في الولايات المتحدة، كما ينطبق على الوفيات في إيطاليا أو اليابان أو السويد. أي إذا كنت من بين الأشخاص الأكثر حظاً في أمريكا، فسوف تعيش طويلاً، مثلما يعيش الأوفر حظاً في أي مكان بالعالم.
أمَّا في أقصى اليمين، فستجد الأقل حظاً. سواء كان الأمر يتعلق بالتركيبة الجينية، أو النكسات الاجتماعية والاقتصادية، أو ببساطة الوجود في المكان الخطأ في الوقت الخطأ، وقد انتهت حياة هؤلاء الأشخاص في وقت مبكر وبشكل مأساوي. ولكن عند التدقيق في الشهادات، سيتبين أن مصير المحرومين يعتمد بشكل أكبر على الدولة. إنه حتى أكثر الناس حرماناً في اليابان وسويسرا، يصلون عادة إلى سن الستين، وفي فرنسا وألمانيا وبريطانيا، يموتون عند عمر 55 عاماً تقريباً. أما في الولايات المتحدة، فيموتون عند 41 عاماً فقط.
لقد قيل الكثير عن التراجع في متوسط العمر المتوقع أن يعيشه الإنسان في أمريكا، ولكن بالتركيز على إحدى الإحصاءات التي تبرز متوسط العمر لجميع السكان، ستتبين الفوارق الصاعقة إلى أقصى الحدود. وبالنسبة للرجال الذين يعيشون في أدنى السلم الاقتصادي بالولايات المتحدة، فالأمر أسوأ من ذلك، حيث تشير حساباتي إلى أن متوسط عمر الوفاة في هذه المجموعة، هو 36 عاماً فقط، مقارنة بـ 55 عاماً في هولندا، و57 عاماً في السويد.
لم يكن الأمر دائماً على هذا النحو، ففي ثمانينيات القرن العشرين، كان الأمريكيون الأكثر احتياجاً يعيشون لمدة تعادل تقريباً حياة نظرائهم في فرنسا. وبحلول أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، طال متوسط الحياة في القاع بشكل كبير، وبينما كان العجز آخذاً في الاتساع، لم يكن الأمر مثيراً للقلق. ولكن في العقد الماضي، تقلصت حياة الأشخاص الأقل حظاً في أمريكا بمقدار ثماني سنوات كاملة، وتحولت هذه الفجوة مع فرنسا إلى هوة متسعة. فماذا حدث؟.
من الشائع اللجوء إلى تفسيرات اقتصادية، إذ لا بد أن اتساع فجوة التفاوت في طول أعمار الأمريكيين مرجعها اتساع فجوة التفاوت في الدخول الأمريكية، ولا بد أن قصر أعمار أولئك الذين يعيشون في القاع، يرجع إلى انخفاض الرفاه المادي، لكن الأدلة تشير إلى خلاف ذلك، حيث كان التفاوت في الدخل في الولايات المتحدة آخذاً في الارتفاع طوال الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، في حين كان طول حياة أفقر الأمريكيين آخذاً في الزيادة، وبقى التفاوت ثابتاً مع تزايد وفيات الأكثر احتياجاً. وفيما انخفضت معدلات الفقر المادي في أمريكا بقدر كبير على مدى العقد الماضي، فقد تراجع بشدة متوسط العمر المتوقع للأقل حظاً.
بالإضافة إلى ذلك، فإن أفقر مواطني الولايات المتحدة يحصلون على دخل يساوي دخل أفقر المواطنين في جميع أنحاء العالم المتقدم. ولكي نفهم ما يحدث، علينا ألا ننظر فقط إلى طول الأعمار، بل لا بد أن نبحث عن أسباب الوفاة المبكرة. ففي معظم البلدان الغنية، إذا أحاط بك سوء الحظ، في ما يتعلق بطول العمر، فإنك ستستسلم للسرطان قبل أن تصل إلى سن الستين. ولكن إذا كنت سيئ الحظ في الولايات المتحدة، فستموت بسبب جرعة زائدة من المخدرات، أو جرح ناجم عن طلق ناري قبل سن الأربعين. وهو ما يقودنا مرة أخرى إلى الإحصائية الأشد صدمة في شريحة الـ 10 % من الرجال الأمريكيين الأكثر فقراً، يبلغ متوسط العمر عند الوفاة 36 عاماً.
وبالنظر إلى مناطق مختلفة من أرجاء الولايات المتحدة، نجد صورة مماثلة، حيث تؤدي بعض الحالات، مثل السمنة، إلى قصر عمر الأغنياء والفقراء، على حد سواء، ولكن الآلام التي تنفرد بها أمريكا لها تدرجات اجتماعية واقتصادية شديدة، فالأثرياء الأمريكيون الذي يقطنون في أجزاء من البلاد ترتفع فيها نسبة استخدام المواد المخدرة والعنف المسلح، يعيشون نفس العمر الذي يعيشه أولئك الذين يقطنون مناطق يندر بها إدمان الفنتانيل وحوادث إطلاق النار نسبياً، ومع ذلك، فإن فقراء الأمريكيين يعيشون حياة أقصر بكثير، إذا نشؤوا محاطين بالبنادق والمخدرات، ممن لو أقاموا بمناطق آمنة.
إذن، السبب وراء قصر أعمار الأشخاص الأقل حظاً في الولايات المتحدة، مقارنة بنظرائهم في أماكن أخرى من العالم المتقدم، ليس اقتصادياً، فبالنسبة للأسلحة، الأمر اجتماعي وسياسي، كما تحول القناعات الراسخة دون تحقيق تقدم. وبالنسبة للمواد المخدرة، فقد نجمت هذه الظاهرة عن الممارسات المتعلقة بإتاحة العقاقير دون ضوابط، خلافاً لأي مكان آخر من العالم.
إن عدد المحرومين في الولايات المتحدة لم يتضخم، ولم يصبحوا أكثر فقراً، لكن بالنسبة للأمريكيين الأقل حظاً، فإن ظروفهم بمثابة حكم بالإعدام، ليس موجوداً في أي مكان آخر بالعالم.
تابعوا حال الخليج الاقتصادي عبر جوجل نيوز