سابقة العدل الدولية ليست كأي سابقة: «دولة فلسطين»

كتب ناصر المحيسن - الكويت في السبت 27 يوليو 2024 10:02 مساءً - يوجز هذا المقال الواقعات التي أدت إلى صدور الرأي الاستشاري الأخير، من محكمة العدل الدولية، وحيثياته، ومنطوقه، والنتيجة القانونية التنفيذية لهذا القرار، في مواجهة أشخاص القانون الدولي العام، وذلك على النحو الآتي:

Advertisements

الواقعات

إنه في يوم الجمعة، الموافق 2024/07/19، صدر رأي استشاري من محكمة العدل الدولية، وذلك بالتوافق مع اختصاصات هذه المحكمة، والتي تختص – بالإضافة إلى الفصل في المنازعات الدولية في ما بين الدول – بإبداء الآراء القانونية، فيما تُستشار به من قبل الدول وأجهزة منظمة الأمم المتحدة. كما أنه وإن كانت هذه الآراء غير ملزمة بطبيعتها، إلّا أن واقعها يثبت – فقهياً – عكس ذلك، حيث اتجه أغلب الفقه ومؤسسات المجتمع الدولي، إلى ضرورة احترام الآراء الدولية الصادرة من أعلى جهازٍ قضائي في العالم، مما قد يضفي، عطفاً على ذلك، الالتزام الأخلاقي في شأن آرائها القانونية من قبل المخاطبين بها، وذلك النحو الذي سيتم بيانه في قسم النتيجة من هذا المقال.

تجدر الإشارة إلى أن هذا الرأي كان بطلب من الجمعية العامة في الأمم المتحدة في عام 2022؛ حيث تضمن الطلب إبداء الرأي من قبل المحكمة، في شأن بيان الرأي القانوني حول الممارسات والعواقب القانونية عليها، التي يقوم بها جيش الاحتلال الصهيوني، ضد قطاع غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية (تسمى دولة فلسطين إلى نهاية المقال)، ومصير شعبها. كما تضمن تحديداً طلب الإجابة عن سؤالين، وهما: (أ) العواقب القانونية التي تنتج عن احتلال جيش الكيان الصهيوني، بالمخالفة لحق الفلسطينيين بتقرير المصير منذ عام 1967؟

(ب) الممارسات العسكرية وغيرها من قبل جيش الاحتلال، وما إن كانت مخالفة لقواعد قانون الاحتلال؛ منها، إنشاء مستعمرات والتوسّع بالاحتلال مما يؤدي إلى التغير الديموغرافي للدولة.

السند القانوني

استندت المحكمة في رأيها على ثلاثة مصادر من القانون الدولي، وهي: قانون الاحتلال (the Law of Occupation)؛ حق تقرير المصير (self-determination) في إطار القانون الدولي لحقوق الانسان، القانون الدولي الإنساني (International Humanitarian Law)؛ وأخيراً، دعماً قانونياً للعدالة الدولية الجنائية، في إطار القانون الدولي الجنائي.

يقرر قانون الاحتلال (the Law of Occupation)، وهو مجموعة من النصوص الواردة في اتفاقيات جنيڤ الأربعة وبروتوكولاتها، وقواعد قانون النزاع المسلح العرفية، على أنه يقع على المحتَل أن يحترم قوانين ونظم المنطقة المحتلة، كما ينص أيضاً على أن الغرض من الاحتلال، هو إعادة النظام في الدول المتزعزعة أمنياً، أو المعرضّة لحكم استبدادي أو نتيجة لعدوان دولي، بشرط أن يكون هذا الاحتلال موقتاً بطبيعته، وليس دائماً وألّا يكون الغرض منه ضم الأراضي المحتلة، وعلى أن يعود السلام والأمن الدوليين إلى هذه المنطقة، ثم الانسحاب من هذه المناطق المحتلة، حيث ينتهي الغرض منه، تبعاً.

ولما كان ما تقوم به دولة الكيان الصهيوني من انتهاكات لهذه القواعد، منذ عام 1967 (وهو العام الذي قامت دولة الاحتلال الصهيوني باحتلال غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية)، فإن المحكمة استندت عليها في حيثيات حكمها، حيث إنها سند قانوني لما انتهت إليه من ضرورة الانسحاب من الأراضي الفلسطينية، والسماح للشعب الفلسطيني بالتمتع بحق تقرير المصير.

أما بالنسبة لاستنادها لحق تقرير المصير (self-determination)، تجدر الإشارة إلى أن القانون الدولي فرّق بين نوعين من حق تقرير المصير، حق تقرير المصير الدولي وحق تقرير المصير الداخلي، وما استندت إليه المحكمة هو الأول. فقررت أن للشعب الفلسطيني حق تقرير مصيره الدولي، والذي ينجم عنه إنشاء دولة لفلسطين، وهو حق يجد أصله القانوني في قواعد القانون الدولي الملزمة (erga omnes partes)، التي تجبر دول العالم، بما فيها دولة الاحتلال الصهيوني، بضرورة احترامه وضمان ممارسته والتمتع به. ولما كان ما قررته المحكمة في رأيها، أن الفلسطينيين يطالبون بحق تقرير مصيرهم منذ عام 1967، فإنه لا يسع المحكمة إلا أن تقرر به في رأيها، وإن كانت المناطق المحتلة تتعرض لانتهاكات لقواعد قانون النزاع المسلح.

أما في شأن قواعد تنظيم النزاع المسلح في اتفاقيات جنيڤ الأربعة، بما فيها قواعد القانون الدولي العرفي International) Humanitarian Law)، فقد قررت المحكمة في رأيها أن ما تقوم به دولة الكيان الصهيوني المحتل، من ممارسات ضد الشعب الفلسطيني، في سبيل تمتع الأخير بالحماية المقررة في قواعد القانون الدولي للمدنيين، فإنها تكوّن معه دليلاً لارتكاب هذا الكيان جرائم دولية، تجد أصلها في نصوص القانون الدولي الجنائي.

المنطوق

قررت المحكمة في منطوق رأيها الآتي:

- اعتبار استمرار وجود دولة الكيان الصهيوني في الأراضي الفلسطينية المحتلة غير قانوني.

- إن دولة الكيان الصهيوني ملزمة بإنهاء وجودها غير القانوني في الأراضي الفلسطينية المحتلة، في أسرع وقت ممكن.

- إن دولة الكيان الصهيوني ملزمة بوقف جميع أنشطة الاستيطان الجديدة على الفور، بما فيها إجلاء جميع المستوطنين من الأراضي الفلسطينية المحتلة.

- إن دولة الكيان الصهيوني ملزمة بتعويض جميع الأشخاص، الطبيعيين أو الحكميين، في الأراضي الفلسطينية المحتلة، عن الأضرار التي لحقت بهم.

- جميع الدول ملزمة بعدم الاعتراف بشرعية الوضع الناشئ عن الوجود غير القانوني لدولة الكيان الصهيوني في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وعدم تقديم المساعدة أو الدعم في الحفاظ على الوضع الناشئ عن الوجود المستمر لدولة الكيان الصهيوني في الأراضي الفلسطينية المحتلة.

- يقع على المنظمات الدولية، بما في ذلك الأمم المتحدة، التزام بعدم الاعتراف بشرعية الوضع الناشئ عن الوجود غير القانوني لدولة الكيان الصهيوني في الأراضي الفلسطينية المحتلة.

- ينبغي للأمم المتحدة، وخاصة الجمعية العامة التي طلبت الرأي، ومجلس الأمن، أن تنظر في الوسائل الدقيقة والإجراءات الإضافية اللازمة، لإنهاء الوجود غير القانوني لدولة الكيان الصهيوني في الأراضي الفلسطينية المحتلة، في أسرع وقت ممكن.

النتيجة

وإن كان الرأي الصادر من المحكمة، بتكييفه القانوني «استشارياً» إلا أنه في مضمونه ونتيجته ملزم وإجباري، وذلك على النحو الآتي:

أولاً: بالإشارة إلى ما ورد في قسم السند القانوني من هذا المقال، نجد أن ما بنت عليه المحكمة في صناعة رأيها، من قواعد قانونية في شأن الاحتلال وحق تقرير المصير، والتعويض الناجم عن أخطاء الدول، وقواعد القانون الدولي الإنساني كلها، ما هي إلا ترديد لما استقرت عليه قواعد القانون الدولي الملزمة؛ تجد أصلها في أحكام ومبادئ القانون الدولي العرفي الآمرة والملزمة jus cogens) و(erga omnes partes، وحيث إن هذه المبادئ تلزم الدول بأحكامها، وتذكّرها بضرورة احترامها، أصلاً، دون وجوب اللجوء إلى أي قنوات لتنفيذها؛ فعَليّه، يكون هذا الرأي الاستشاري ملزماً بشكل غير مباشر للدول، لأنه مبني على أرضية ملزمة للدول، في ظل قواعد القانون الدولي المشار إليها jus cogens.

ثانياً: بالنسبة لحجية هذا القرار، فهو يكون في مواجهة كافة الدول والمنظمات الدولية، حيث إن طالب الرأي، الجمعية العامة، قد ألزم نفسه بأي نتيجة تنتهي إليها هذه المحكمة، ويكون هذا الرأي الاستشاري، تبعاً وبطبيعة الحال والمنطق، ملزماً لما انتهى إليه من واقعات، وحيثيات، ومنطوق لصالح دولة فلسطين. إضافة إلى ذلك، ولما كانت دول العالم – كافةً – تُعد أطرافاً في هذا الجهاز ومشْتَرِكَةً في عضويته، فإنها ملزمة بتصرفاتها التي تصدر من خلال هذا الجهاز، الذي يجمع عضوية هذه الدول.

النتيجة الأخرى، أن هذا القرار قد انتهى بعدم شرعية الاحتلال الصهيوني لدولة فلسطين منذ عام 1967، حيث إنه انتهك الغرض من الاحتلال، من خلال التوسّعات في الأراضي الفلسطينية، التي قام بها طوال هذه المدة من التاريخ، كما انتهك حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني، الأمر الذي يكون معه الاحتلال مخالفاً لقواعد القانون الدولي الآمرة، مما يستوجب على هذا الكيان الانسحاب من هذه الأراضي فوراً حسب ما انتهى إليه هذا الرأي في منطوقه.وليس فحسب، بل وعلى كافة المجتمع الدولي سلوك طريق ينفّذ ما انتهى إليه هذا القرار، كالاعتراف بدولة فلسطين، المكوّنة من الأراضي الحدودية المشار إليها أعلاه (دون الرجوع إلى قواعد الاعتراف في اتفاقية مونتفيديو)، في مقابل وجوب إنكار وجود دولة الاحتلال في تلك الأراضي. إضافة إلى ذلك– ومما راق لي في سبيل تحقيق العدالة الدولية الجنائية– أن هذا القرار نصّب نفسه منصب الدليل (self-evident) أمام جهات التحقيق الدولي الجنائي والقضاء الدولي الجنائي، لصالح جهة الاتهام والمجني عليهم (الشعب الفلسطيني) ضد القائمين على الجرائم الدولية التي اُرتكبت (وتُرتكب) في دولة فلسطين. بمعنى آخر، أن هذا القرار من الوارد أن يستخدم دليلاً أمام المحكمة الدولية الجنائية (ICC) في شأن مذكرات الاعتقال والمحاكمات التي ستجرى ضد من ارتكب جرائم دولية ضد الفلسطينيين أمام هذه المحكمة، وعلى رأسهم، المدعو، (رئيس وزراء الكيان الصهيوني بنيامين) نتنياهو.

* أستاذ القانون الدولي الجنائي المساعد

جامعة الكويت – كلية الحقوق

أخبار متعلقة :