بيروت - ايمان الباجي - لم تكن وفاة أم كلثوم خبراً عادياً، بل شكّلت حدثاً جماهيرياً كبيراً. فهي “ثومة”، حبيبة قلوب الملايين التي يخلو العالم العربي والغربي من نظيرٍ لها، والتي تركت بصمة خالدة في عالم الغناء العربي.
ورغم مرور 48 عاماً على رحيلها، لا تزال أغنياتها تصدح في كلّ مكان وزمان، ويرافقنا صوتها العظيم في أمسياتنا الباردة؛ ليدفئ قلوبنا ويملأها حباً وهياماً، وحنيناً إلى الزمن الجميل.
هي “الست”، من دون إضافات أخرى؛ فتلك الكلمة كافية ليفهم الجميع أن أم كلثوم هي المقصودة، صاحبة المسيرة الفنية الطويلة والمهمة في عالم الغناء، والتي بدأتها صغيرة، واستمرت حتى وفاتها يوم 3 فبراير/شباط 1975.
ورغم آلامها ومرضها في الفترة الأخيرة من حياتها، رفضت أم كلثوم الاعتزال أو حتى الراحة، واستمرت تتعامل مع أوجاعها على أنها آنية و”شدّة وهتزول”، حتى خانها دماغها وتوقف عن العمل، في يومٍ لا يُنسى وسيظل عالقاً بأذهان الشعب المصري والعربي.
في كتابها “معجزة الغناء العربي”، تقول الكاتبة رتيبة الحفني: إن مشوار أم كلثوم أصبح ثورة في الغناء العربي، وإن الست تحدثت عن موتها في إحدى المرات، قائلة: أعتقد أن أهم ما يمكن أن يُكتب عني بعد موتي أني نقلتُ الجمهور من الإسفاف الغنائي الذي كان يعيشه في أغنيات مثل “ارخي الستارة اللي في ريحنا” إلى مستوى “إنّ حالي في هواها عجب”، و”الصبّ تفضحه عيونه”، و”رباعيات الخيام”.
في ذكرى رحيلها الـ48، عودة بالذاكرة قليلاً إلى الوراء، وتحديداً إلى اليوم الذي شهد وفاة أم كلثوم، لنتعرّف إلى تفاصيل اللحظات الأخيرة التي عاشتها، ما سبقها وما جاء بعدها من مأتمٍ جماهيري مهيب حضره ملايين المصريين.
ما قبل وفاة أم كلثوم.. الحفلة الأخيرة
مع بداية سبعينيات القرن الماضي، رحل الرئيس جمال عبد الناصر، وكانت مصر دخلت في حروب الاستنزاف مع عدم ردّ هزيمة النكسة.
بالتزامن مع ذلك، اشتدّ المرض على أم كلثوم بسبب الغدة الدرقية أولاً، التي كانت سبباً في ارتدائها النظارة السوداء معظم الوقت، لا سيما أن النشاط المفرط للغدة يؤدي إلى جحوظ العينين وتهدل الجفون، ويسبب انزعاجاً من الأضواء.
رفضت أم كلثوم إجراء عمليةٍ في الغدة الدرقية، بسبب احتمال تأثر حبالها الصوتية، واكتفت بتناول الأدوية فقط.
إلى جانب ذلك، كانت مشاكل الكلى قد ازدادت في السنوات الأخيرة وبدأت تؤثر على نشاطها الفني. فحدث تأجيلٌ متكرر للحفلات، حاولت خلالها التعافي والعودة إلى الغناء، لكن همّتها وحركتها كانت في تراجع. وتُشير بعض المصادر إلى أنها كانت تتناول المسكنات والحقن في الاستراحات بين وصلاتها الغنائية، حتى تستطيع الوقوف والغناء.
مع محاولات الغناء رغم المرض، كان يوم 4 يناير/كانون الثاني 1973 موعد حفلتها الأخيرة، التي ودّعت من خلالها أحبّ الأماكن إلى قلبها، خشبة المسرح.
لم تكن أم كلثوم تعلم أن تلك الحفلة ستكون الأخيرة، رغم أن الجميع -جمهوراً ونقاداً وموسيقيين- كان يعلم أن الموعد اقترب، من دون أن يجرؤ أحد على تخيّل تلك اللحظة التي كان الجميع يتحاشى التفكير بها، حتى وإن بدا المرض واضحاً على جسدها وصوتها، والجمهور الذي عاش يستمتع بها ويتنقل حبها من جيل إلى جيل.
في تلك الحفلة غنّت الست وصلتين؛ في الأولى قدمت أغنية “ليلة حب” تأليف أحمد شفيق كامل وألحان محمد عبد الوهاب، وكانت تلك المرة الثانية التي غنتها فيها، بعد أن قدّمتها للمرة الأولى في حفلة نهاية عام 1972.
استمرت تلك الوصلة ما يقارب الساعتين، رغم مرضها. وكانت أم كلثوم تغني وتُطرب وتستعيد روحها من خلال الغناء والالتحام مع الجمهور الذي -كعادته- كان مسلطناً في حفلة الوداع الأخير. كيف لا، وهو الذي عاش يستمتع بصوتها وينقل حبّها من جيل إلى جيل.
ثم عادت في الوصلة الثانية لتقدم أغنيتها القديمة “القلب يعشق كل جميل” كلمات بيرم التونسي وألحان رياض السنباطي، التي قدّمتها للمرة الأولى عام 1971، وكانت آخر أغنياتها الدينية.
محاولات هزيمة المرض بالغناء
لم تبتعد أم كلثوم عن الغناء؛ أوقفت الحفلات، لكنها كانت تتعامل مع الأمر على أنه وعكة صحية، وستعود مرة أخرى لتقف على المسرح وتغني لجمهورها. فعقدت جلسات عمل من أجل أغنيتها الجديدة “حكم علينا الهوى”، التي كتبها عبد الوهاب محمد ولحنها بليغ حمدي.
وفي يوم 8 أبريل/نيسان 1973 سجلت ثومة الأغنية في الاستوديو وهي جالسة على كرسي، ويرافقها كورال غنائي من أجل تخفيف الحمل على صوتها، بعد سنواتٍ كثيرة من اختفاء الكورال في أغنياتها.
في الفترة نفسها، أي قبل وفاة أم كلثوم، كانت تعقد جلسات مع الملحن سيد مكاوي من أجل أغنيتها الجديدة أيضاً “أوقاتي بتحلو”، التي لم يُمهلها القدر حتى تغنيها.
ويُقال أن سيد مكاوي أجرى محاولات مع فيروز لتغنيها، مع تعهده بإخفاء النسخة المسجلة من البروفات بصوت أم كلثوم، لكن فيروز رفضت. فكانت الأغنية من نصيب وردة، التي قالت عن أم كلثوم، في حديثٍ تلفزيوني لها: “هي العيش، وكلنا فتاتيت حوليها”.
يروي الصحفي محمود عوض تفاصيل فترة ما قبل وفاة أم كلثوم في كتابه “أم كلثوم التي لا يعرفها أحد”، قائلاً: “بدأت أولى خطواتها نحو النهاية في مايو/أيار 1972، ومن يومها بدأ العد التنازلي واستمرت على العلاج، كما اقتصرت المعاملة مع السيدة أم كلثوم على الاتصال التليفوني”.
ويتابع: “فجأة جاءني تليفون من بليغ حمدي يقول لي: يا صديقي، أم كلثوم تريدك غداً في استديو 47 بالتليفزيون.. قلت له: خير؟ ضحك صديقي وقال: علشان تسمع أغنيتها الجديدة التي لحنتها لها “حكم علينا الهوى”.
ويتحدث عوض في كتابه عن مدى مرض أم كلثوم وآلامها وقت التسجيل، ويقول في أحد المقاطع: “سألني بليغ قائلاً: مش حاسس إن أم كلثوم تعبانة جداً، وصوتها يتقطع لأول مرة وشكلها مرتبك؟ وفجأة سقطت الست على الكرسي، وقالت فين اليانسون؟ وارتبكت أنا وبليغ، وفجأة قالت نكمل التسجيل بكرة. وفعلاً بدأت التسجيل في اليوم التالي بعد أن استردت نشاطها، وغنّت الأغنية نفسها في حفلة عامة في فبراير/شباط 1973”.
واللافت أن حفلة فبراير/شباط العامة التي يتحدث عنها عوض، والتي يقول إنها الحفلة الأخيرة قبل وفاة أم كلثوم، لا توجد أي معلومات عنها في الأرشيف الفني. فهي إما كانت حفلة خاصة، أو أنها لم تُسجل، لكن المعروف أن الحفلة الأخيرة للست كانت في يناير/كانون الثاني 1973؛ كما أنها لم تغنِّ “حكم علينا الهوى” في حفلة.
وفاة أم كلثوم قبل رؤية “الجناح الوردي”
فجر 30 يناير/كانون الثاني 1975، نُقلت أم كلثوم من فيلتها بالزمالك إلى مستشفى القوات المسلحة بالمعادي؛ بعد دخولها في غيبوبةٍ إثر إصابتها بنزيفٍ في الرأس، وتدهور حالة الكلى، مع مضاعفات في القلب.
كل الأخبار كانت تشير إلى اقتراب الرحيل، حتى أن الإذاعة الرسمية وقعت في خطأ فادح بإعلانها وفاة أم كلثوم في الأول من فبراير/شباط، قبل أن تُسرع المستشفى في إصدار بيان تنفي فيه خبر الوفاة، لتبدأ بعدها الشائعات التي ترافقت مع قلق المصريين والوطن العربي على صحتها.
وعن تلك الأيام والأحداث، يحكي الشاعر صالح جودت في مقالٍ له -نُشر ضمن مجلة “الهلال” في عدد مارس/آذار 1975- قائلاً: “تدهورت حالتها، وقيل إنهم سينقلونها من بيتها إلى مستشفى المعادي. لكن لم تكن في المستشفى غرفة خالية لائقة بها، فرأيتُ أن أستعجل خروجي حتى أفسح مكاني لها”.
ويتابع جودت: “ولأن أم كلثوم كانت تتأثر بالألوان وتحب اللون الوردي، طلوا لها الجناح الذي كنتُ أرقد فيه باللون الوردي، ولكن حالتها ازدادت سوءاً. فلم تذهب إلى الجناح الوردي، بل إلى غرفة العناية المركزة (الإنعاش)، وظلت في هذه الغرفة حتى صعدت روحها إلى بارئها، من دون أن تشهد الجناح الوردي”.
وجاء مانشيت جريدة “الأخبار” في 1 فبراير/شباط 1975 يقول: “حالة أم كلثوم حرجة جداً.. حالة المخ خطيرة والأزمة القلبية في تحسن مستمر”، بينما نشرت جريدة “الأهرام” تقريراً في يوم الوفاة نفسه تحت عنوان: “آخر تقرير طبي عن أم كلثوم: إصابة المخ غير قابلة للشفاء أو التحسن”.
في مثل هذا اليوم، 3 فبراير/شباط، وعند الساعة الرابعة وثلاثين دقيقة، رحلت عنا أم كلثوم. انقطع إرسال الإذاعة المصرية، وبُث بيانٌ من مجلس الوزراء يُعلن فيه رحيل كوكب الشرق عن عمرٍ يناهز 77 عاماً.
وخرج مانشيت صحيفة “الأهرام” في اليوم التالي يعلن “وفاة أم كلثوم بعد صراعٍ مرير استمر 100 ساعة”، ليعلن الخبر الحزين إلى الجمهور المصري الذي ذرف الدموع على رحيلها. الكلّ بكى، فقد كان خبر رحيلها صادم رغم أن حالتها الصحية لم تكن سراً.
في 5 فبراير/شباط 1975، كان اللقاء الأخير مع أم كلثوم والوداع الجميل لفنانة استثنائية. فكانت جنازة مهيبة شارك فيها ملايين المصريين، كما حضرها العديد من رؤساء الدول العربية ومندوبون عنهم.
وصل نعش أم كلثوم إلى مسجد عمر مكرم في ميدان التحرير؛ ولسنا نبالغ لو قلنا إن البكاء عمّ مصر كلها، بل العالم العربي، والجميع يعزي الجميع. أما العزاء، فقد شارك فيه أغلب المقرئين المشاهير في مصر وقتئذ. في العالم التالي لرحيلها، أقامت وزارة الثقافة حفلة تأبين لها، شارك فيها العديد من الفنانين والمشاهير، على رأسهم الرئيس محمد أنور السادات. وألقى الشاعر أحمد رامي آخر قصائده في رثاء رفيقة الدرب والنجاح، فقال فيها: “ما جال في خاطري أنّي سأرثيها بعد الذي صُغتُ من أشجى أغانيها، قد كنتُ أسمعها تشدو فتُطربني، واليومَ أسمعني أبكي وأبكيها”.
عربي بوست
اقرأ المزيد: زواج هبة زهرة من محمد حسن ونقابة الفنانين السوريين تهنئهما